رغم علمنا منذ بعض الوقت أن هذه اللحظات ستأتي, فإننا كنا نخشاها كثيرا, لحظة رحيل رجل له وزن, وله منطق, وله فعل, وله شعاع.. رجل له معني, هادئ بطبعه, قليل الكلام, عزوفا عما لا لزوم له, عفا, لذلك أعطاه الجميع نوعا فريدا من الاحترام. لم يكن أسامة الباز مجرد دبلوماسي بالمعني المألوف, وإنما دبلوماسي معلم لا يظهر عادة إلا في عصور الانتقال عندما تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة. وكان إنسانا فذا, في أزمات التحدي لم يفقد خرائطه الملاحية, وتزداد ثقته في الاعتماد علي أوراقه وقدرته علي الإبحار في المياه العميقة, مهما علت الأمواج, واشتدت العواصف والرياح. ينتمي أسامة الباز إلي هذه السبيكة المفكرة من أبناء الخارجية المصرية العظام, الذين عاشوا لشيء أكبر من أنفسهم, وحافظوا علي عراقتها, أولئك الذين قدت مواقفهم علي جدران مصر, اعترافا, وإعلاءا, وتكريما, كلما دنونا منهم تبين لنا عظم هؤلاء, ومهابة هؤلاء الذين كانت لخطواتهم في كل البقاع والآفاق, آثارا لا تنطبع إلا علي سطح الضوء! مع هذا العنقود المضيء بالوطنية المصرية من أبناء الخارجية المصرية العريقة يقف أسامة الباز مواطنا بين الدبلوماسيين, ودبلوماسيا بين المواطنين, يتحرك بعيدا عنهم كجزء متحرك من صميمهم, يحمل همومهم, ويري الأشياء بعيونهم, وكثيرا ما كنت تراه موجودا بين الناس ليعيش معهم زحام الحياة, ويضع أطراف أصابعه فوق عروقهم ليتحسس نبضهم, بعبارة أكثر استقامة ونفاذا, كان أسامة الباز سفيرا موفدا من الشعب إلي السياسة, ومبعوثا مفوضا من السياسة إلي الشعب, موثوقا به, تلك هي ومضة الإعجاز في قيمة المواطنة! ما من دبلوماسي مجيد يظهر علي مسرح السياسة المصرية ويظل محلقا إلا ويحمل شيئا من أسامة الباز, فهو لم يكن دبلوماسيا بالمعني المألوف, وإنما معلم من ذلك الطراز الذي لا يظهر عادة إلا في عصور الانتقال عندما تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة. ولا يخفي علي عارفي هذه الفلتة الدبلوماسية أنه كان دائما ما يلملم أطراف الحذر, وينأي بنفسه مترفعا ليظل محتفظا بنقائه السياسي, وصفائه الإنساني, وسط نظام سياسي متلاف مضيع, حول البلاد إلي مستنقع ملاري كبير اعتمد علي الحذف, والتهميش, ولدد التطويق, والحصار. في ظل هذا المناخ المسقوف بغيوم النخب المحنطة, استعشر أسامة الباز محاولة خفية للمساس بشموخه الروحي, تلك هي اللحظة التي قرر فيها هذا المعلم أن يجمع أوراقه ويرحل بعيدا عن الوباء! لمزيد من مقالات د . محسن عبد الخالق