لدي تحفظات كثيرة علي طريقة التعامل السياسي, مع حكم محكمة القاهرة للأمور المستجلة بشأن حظر الإخوان . فالمؤيدون له, هللوا وكأنهم نجحوا في التخلص من عبء الجماعة تماما. والرافضون, قللوا من قيمته القانونية المعنوية, وكالعادة اتهموا القضاء بالتسييس. وفي الحالتين للمسألة جوانب أخري مهمة. الشاهد أن الحظر الثالث في تاريخ الجماعة, يتفق مع الحالتين السابقتين عامي1948 و1954 في أنهم جميعا جاءوا عقب عمليات عنف وترويع وإرهاب قامت بها الجماعة, وبعد محاولات فاشلة للتحكم في مفاصل الدولة وشل حركتها الطبيعية. لكن الحظر الأخير يختلف عن سابقيه في عدد من النقاط الرئيسية. أبرزها, أنه حدث بعد تجربة فاشلة للإخوان في الحكم, كادت تدخل مصر في سلسلة من الكوارث الاستراتيجية. ولم يخضع لأهواء أو رغبات السلطات الرسمية, فهو لم يأت بقرار سياسي فوقي, وإنما بحكم قضائي, سبقته خطوات فنية متدرجة, من قبل الاتحاد العام للجمعيات الأهلية تحديدا. كما توافرت له عناصر وقوي داعمة ومختلفة, وبدا الحظر مطلبا شعبيا, ردا علي كثير من التصرفات غير المسئولة لقيادات وكوادر الجماعة في حق غالبية المصريين, ووسط حالة نادرة من العناد والإصرار علي الستمرار في ارتكاب الأخطاء, وإنكار الاعتراف بها ورفض محاولة تصحيحها, فضلا عن عدم التقدير لفضيلة الاعتذار. في المضمون, عندي عدد من الملاحظات, تقلل من القيمة الحقيقية للحظر. أهمها, أن تجربتي الحظر السابقتين لم تؤديا إلي محو الجماعة سياسيا. وإذا كانت التأثيرات السلبية ظهرت علي كيانها في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, فإنها تلاشت أو كانت محدودة في عهد خلفه أنور السادات, لأنه استخدمها ضمن ألاعيبه لضرب اليسار, واستفحلت عملية توظيفها سياسيا في عهد حسني مبارك, واستغلت جملة من العوامل الداخلية والخارجية ووصلت إلي احتلال مقعد رئيس الجمهورية. وطوال العقود الماضية لم تحرم نهائيا من ممارسة السياسة, سرا أو علنا, بطريقة مباشرة أو عبر وسطاء. وحتي عندما أصابها الإنهاك في فترة من الفترات, لجأت إلي مناورات ومساومات وخدمات, ساعدتها علي التمدد في نسيج قطاعات متعددة من المجتمع. وعلمتنا تجربة بريطانيا مع الجيش الجمهوري الأيرلندي, أن الحظر والتضييق ووصمه بالإرهاب, لم يكف وحده لاقتلاعه من جذوره, أو وقف هجماته المسلحة في أنحاء متفرقة من البلاد. وبعد الإرهاق والإعياء رضخ الجانبان لنداء المصالحة. هنا في مصر وجه مكمل لنتائج الحظر, حيث يمكن أن يؤدي تضخيمه والتعامل معه بحسبانه الأداة الحاسمة لكبح جماح الإخوان, إلي فقدان الجماعة الثقة تماما في السلطات الرسمية, وتكرس كل جهودها لحمل السلاح, خاصة أن منهج مبارك في تضييق الخناق وترك الحبل علي الغارب أحيانا لم يعد مجديا, لأسباب تتعلق بالأجواء الراهنة, بشقيها السياسي والأمني, التي ترفض تكرار الطريقة السابقة. وحتي تجربة عبدالناصر التي أفضت لنتائج مبهرة في حينه, لم تتوقف حدودها عند الأبعاد السياسية والأمنية, بل أضيف إليها البعد الثقافي والإعلامي, الذي أوجد نخبة واعية لدورها, وتمكن مشروعه من التوغل في قاع المجتمع, بصورة سدت منافذ الوصول إليه وقتها من الجماعة. الأمر الذي نحتاجه الآن. لذلك فالحظر وحده لا يكفي, لأنه بحاجة إلي آليات حكيمة لمواجهة تمتد بطول وعرض البلاد, حتي يحدث المزيد من التفكيك في جسد الإخوان المترهل, والذي فقد جزءا كبيرا من مناعته الشعبية, تحاول الجماعة تعويضها من خلال التحالف مع بعض التيارات السلفية, والاستفادة من الجمعيات التابعة لها. وعلي الدولة أن تتعامل معها كما تعاملت مع جمعية الاخوان, وإنهاء الفوضي في هذه السبوبة أو هذا الستار, عموما, وتأكيد الإحترام لهيبتها, لأن ثغرة الجمعيات الأهلية أصبحت مدخلا لأعمال منافية للأعراف والقوانين, وبابا مفتوحا للمتاعب السياسية, وأداة للتحريض ضد ثوابت الدولة الوطنية. أما الرافضون للحظر من أتباع الإخوان, الذين أشاعوا الكثير من المغالطات, فقد أوقعوا أنفسهم في حزمة جديدة من التناقضات. فالكلام أن الحظر ستتم الاستفادة منه في تفريغ الاتهامات الموجهة لقيادات الجماعة من مضمونها القانوني, يشبه إلي حد كبير إيمان بعض البسطاء بعودة مرسي إلي الحكم. وفي الحالتين الخيال موجود دون سند علمي أو واقعي. وفي المحصلة يظل السعي للوصول إلي أي مصلحة من الموقف هدفا, والبناء عليها للمنفعة سلوكا شائعا, حتي أضحت الانتهازية مسيطرة علي جزء معتبر من تصرفات الإخوان, بصرف النظر عن حجم ونوع التناقض. فالحكم, في نظرهم مثلا, معيب ومسيس ولا قيمة له وصدر من غير ذي اختصاص, وهو أيضا مفيد في تبرئة القيادات وسيتم الاستئناف عليه واللجوء لدرجات أعلي للتقاضي. بالتالي فالحظر سيحقق بعض النتائج الرمزية, لكن وحده لن يكون نهاية المطاف, وسوف يحتاج لخطوات جادة لتجاوز الفجوات والعثرات. لمزيد من مقالات محمد ابوالفضل