ليست مصادفة أن يظل الشأن المصري بتعقيداته وتشابكاته وإشكالاته له الأولوية علي مناقشة أي قضايا اقليمية أو دولية, فاللحظة الراهنة التي تعيشها مصر في مخاضها الثاني تستوجب أن يدقق الجميع في تفاصيل أحداثها وملابساتها سعيا إلي المساهمة في تقديم رؤي قد تسهم بدروها في الخروج من شرنقة الزجاجة التي تمر بها مصر اليوم. وإذا كان صحيحا أن خريطة الطريق التي طرحت في يوليو الماضي عقب عزل الدكتور محمد مرسي كانت واضحة ومحددة المعالم والخطوات, وصحيح أيضا أن ثمة خطوات عملية اتخذت في سبيل تنفيذ هذه الخطوات كالانتهاء من اعداد مسودة الدستور من جانب لجنة الخبراء وبدء عمل لجنة الخمسين, إلا أنه من الصحيح أيضا أن ثمة تجاهلا واضحا لبعض هذه الخطوات, منها علي سبيل المثال اصدار ميثاق شرف اعلامي يكفل حرية الإعلام, ويحقق القواعد المهنية, والمصداقية, والحيدة, ورغم تأكيد الرئيس المؤقت في لقائه الأخير مع الاعلاميين بالإسراع بوضع هذا الميثاق, إلا أن الواقع يظل مرهونا بتوافر الإرادة السياسية في تنفيذ تلك الخطوة التي تمثل تمهيدا عمليا لضبط الأداء الاعلامي بصوره كافة. بمعني أكثر وضوحا ما هي الاجراءات والخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية في سبيل وضع مثل هذا الميثاق؟ وهذا التساؤل ينقلنا إلي الحديث في إطار كلي حول أداء الحكومة المصرية ليس بهدف تقييم هذا الأداء, وإنما بهدف الوقوف علي ملامح عملها وتوجهاتها وخريطة عملها المستقبلية. فإلي اليوم لم تضع الحكومة المصرية برنامج عملها. فصحيح أن كل حكومة يتم تشكيلها مطالبة بأن تضع برنامج عملها وتقدمه الي البرلمان كونه ممثلا للشعب, ولكن غياب البرلمان لا يعني اعفاءها من المسئولية, بل تظل مطالبة بوضع هذا البرنامج وطرحه امام الشعب المصري, وذلك لأن الهدف من طرح برنامج الحكومة أمام البرلمان ليس فقط بهدف الحصول علي ثقته, وإنما بهدف اعلام الجميع في الداخل والخارج بما تستهدف الحكومة في خططها, وما تنوي القيام به من مشروعات, سواء استثمارية أو خدمية خلال الفترة المقبلة حتي يتمكن الشعب صاحب الحق الأصيل- من الحكم علي أدائها في ضوء ما تضمنه برنامج عملها. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن غياب البرلمان لا يعني اعفاءه الحكومة من تقديم برنامج عملها, وذلك لسببين: الاول, أن المرحلة الراهنة تستوجب- كما تطالب الحكومة- بجذب المزيد من الاستثمارات الوطنية والأجنبية, ولكن كيف يمكن جذب الاستثمار دون أن يعلم المستثمرون ما هي المجالات المطروحة او ذات الأولوية من جانب الحكومة للاستثمار فيها؟ فهل الحكومة تستهدف الاستثمار في مجال البناء والتشييد, أم في مجال الزراعة أم في مجال الخدمات؟ وما هي صور هذا الاستثمار المطلوب؟ فالمستثمر كي يقدم علي ضخ أمواله في الاقتصاد المصري لابد أن يعلم سياسات الحكومة وتوجهاتها بصفة عامة ومجالاتها المستهدفة بالاستثمار علي وجه التحديد. أما السبب الثاني في كيفية تقييم أداء الحكومة سواء بالنجاح أو الفشل دون أن يعلم الرأي العام ما هي خطط هذه الحكومة التي كان من المفترض تنفيذها, أو التزمت في برنامج عملها بتنفيذها للوقوف علي ما تحقق منها وما لم يتحقق, وما هي المعوقات التي واجهتها في تنفيذها حتي تستكمل الحكومة التالية تذليل مثل هذه الصعوبات, وهو ما يرسخ بدوره إلي دولة المؤسسات وينهي دولة الأشخاص. فما عانت منه مصر في السابق من أن يأتي كل رئيس حكومة وكأنه يبدأ من الصفر لا يعني سوي أننا نعيش في جزر منعزلة, وفي دولة أفراد وليست دولة مؤسسات, وهو ما يتعارض مع ما نؤسسه للدولة المصرية ما بعد الثورة. ملخص القول إن حكومة الدكتور الببلاوي مطالبة بأن تضع برنامج عمل محدد الملامح والمراحل وآليات التنفيذ كخطوة أولي لجذب الاستثمار بنوعيه الداخلي والخارجي, هذا من ناحية. ومن ناحية أخري, تأكيد أهمية أن تكون لدينا خطط ترسم لمستقبل مصر تقوم علي تنفيذها الحكومات المتعاقبة, فصحيح أن لكل حكومة توجهاتها وآليات عملها, إلا أنه من الصحيح أيضا أن التوجهات العامة للدولة ومشروعاتها القومية تظل العامل المشترك بين الحكومات المتعاقبة ترسيخا لدولة المؤسسات كسمة أساسية للدولة العصرية الديمقراطية التي ينشدها الجميع. لمزيد من مقالات عماد المهدى