أتذكر في مرحلة الطفولة, أنني كنت أتشوق لزيارة الريف, ليس فقط للانطلاق في سحر الطبيعة الرحبة, أو لنسمات الفجر الباردة, أو لرائحة طزاجة الخبز الساخن, وغيرها مما يعطي الريف روحا ومذاقا مختلفا عن المدينة, ولكن كان هناك ما يشدني بقوة السحر إلي الريف وهي حكايات أمنا الغولة! ما أن تطأ قدماي المكان حتي أبحث عمن يحكي لي قصصا من حكايات أمنا الغولة, فكل راوية تحكي القصة بإبداعها الخاص, عن أساطير الكائن الخرافي الذي يتغذي علي لحوم البشر أحياء, فهي الساحرة الخبيثة نصفها إنسان والنصف الآخر حيوان, ومن شدة شرها فرقت بين الحبيبين الشاطر حسن وست الحسن والجمال! لم تكن قصص أمنا الغولة مجرد تسلية, ولكنها كانت أداة معرفية لاكتشاف العالم الكبير, الذي لا أعلم عنه شيئا, فلا خبرة ولا معلومات متاحة, ولكنه مليء بالألغاز التي لا أفهم ما وراءها من خير وشر, فكانت قصص أمنا الغولة الأسطورية, ناقوس خطر ينبهني أن هناك شياطين كونية قادرة علي التماهي والاختفاء والتكون والتحول, واستغلال البراءة والسذاجة وقلة الخبرة للفتك بأصحابها بلا رحمة, فتأكلهم لا بعد قتلهم.. بل أحياء.. يا للرعب! كانت أمي رحمها الله تنهاني عن سماع تلك الخرافات, أو قراءتها خاصة بعد أن وجدت ضالتي في قصص ألف ليلة وليلة الأسطورية المثيرة المفعمة بالخيال والحكمة, وليست ببساطة حكايات أبي التعليمية عن سمير بياع الفطير! فكانت تقول لي بصرامة ما عفريت إلا بني آدم! لكنني بعد التزود من معين ألف ليلة وليلة أصبحت مصدرا للأساطير التي أسيطر بها علي أطفال العائلة! وأفرض عليهم السمع والطاعة بفضل ما أملك من أساطير! انتهت مرحلة الطفولة, كما انتهت معها الأساطير كأداة معرفة, وإن بقيت كأدوات توضيحية كاشفة, وصدقت أمي رحمها الله, فما عفريت إلا بني آدم, وكشفت لنا علوم السياسة والتاريخ والاقتصاد, أن أمنا الغولة حية ترزق بدماء البشر, فهل هناك أشد غدرا وغيلة من الاستعمار والاحتلال أعلي مراحل الرأسمالية؟ وبعد أن أصبح الاحتلال المباشر مكلفا, اتجه الاستعمار إلي إيجاد دويلات ضعيفة تابعة كوكلاء لأطماعه في المنطقة العربية, أكثر المناطق تضررا من الاستعمار, علي أن يتقاسم معهم بعض المنافع, ومنهم من يتباري لخدمة الأطماع الاستعمارية, كمنافس لإسرائيل- أكبر قاعدة استعمارية في التاريخ ويأتي مشروع الشرق الأوسط الكبير في هذا السياق, لإيجاد كيانات أخري طائفية ضعيفة, تحكم من خارج حدودها, وتسيطر علي الناس بالشعارات الدينية الشعبوية, التي تضحي بحياة الناس عن طيب خاطر, مادامت القيادات تضمن السلطة, والنفوذ, ووقود التابعين المغيبين لا ينفد فكما هناك غولة في الخارج ففي كل مكان غولة تتغذي علي الدماء يجب كشفها.ويعتبر العالم الجليل علي جمعة كاشف للغطاء عنها! شجع ومول وحمي ورعي الاستعمار الجماعات الدينية المتطرفة بالطبع ليس حبا في الإسلام, ولكن لإجهاض مخاض التحول التاريخي للشعوب العربية من مجتمع تقليدي إلي مجتمع حديث, ومن العقل الخرافي الأسطوري إلي العقل العلمي المنظم, ومن مجتمع القبيلة إلي مجتمع المدينة وحكم القانون, وتداول السلطة, تلك أمنا الغولة التي راح ضحيتها الآلاف بل الملايين من مرحلة الاحتلال, إلي غزو العراق وتدميره, وتخريب سوريا الذي يجري علي قدم وساق, لكن بعد ثورة30( يونيو) خرجت الملايين المرعبة لتقول: ياغولة عينك حمرا! هذه الثورة الحقيقية لحظة كشف إلهية للجموع الغفيرة, حتي تزيل اللبس والتردد الذي كان يعتريها منذ اغتيال الوطني الشريف( محمود فهمي النقراشي), ذي التاريخ الوطني المشهود, ورغم أن الشهيد كان قد أعلن وفصل أسباب حل جماعة( الإخوان) المنطقية قبل اغتياله, إلا أن هناك من الغيلان من كان يحاول أن يقنع العامة بعكس ذلك,حتي اغتياله اعتبروه عملا فدائيا للتخلص من أعوان الاستعمار! الآن الغالبية العظمي من الشعب العربي, والمصري خاصة, في لحظة تحول تاريخي تتطلع لوعي وإدراك( النقراشي) الذي أعطته ظهرها في السابق, بسبب الدوافع العاطفية والعقل الأسطوري, واكتشفنا أمنا الغولة في الداخل, التي تحتكر فهم الدين وتفرض رؤيتها الخاصة علي الآخرين بالقوة, وتسحب الماضي علي الحاضر, بلا اجتهاد خارج حدود إمكاناتها الضحلة, وغرورها المتورم بشبق السلطة, فلا تتورع عن التضحية بالأوطان حتي تحقق الخلافة عن طريق خدمة الاستعمار وأهدافه!! جت الدودة تقلد الثعبان اتمطت قامت انقطعت! وقعنا جميعا, بدرجة أو بأخري, في براثن أمنا الغولة بسبب السيناريو الثقافي الخاص بالشرق عامة, والعرب خاصة, الذي ينظم العواطف, ويميل إلي التضخيم والحماسة والانفعال, وهي عواطف سلبية, تنحي العقل والتفكير جانبا, فتلجأ إلي الأساطير والأقوال المرسلة والسجع والمتقابلات, التي يجيدها تجار الدين, بل لا يجيدون غيرها, وهذا ما أدركته جموع الشعب, الذي رأي وشاهد وعلم أن هذه التجارة خاسرة, لا تليق بشعب له تاريخ حضاري بعيد معلوم, وقريب أيضا دفع النقراشي حياته فداء له.. لذا نحن أحوج ما نكون الآن وقبل كل شيء, إلي مؤتمر ثقافي موسع يدلي فيه العلماء المتخصصون في السوسيولوجي والأنثروبولوجي وعلم النفس بدلوهم, لتعديل السيناريو الثقافي الخاص بنا حتي نكشف( أمنا الغولة) التي تتلاعب بعواطفنا, فهناك اتجاه اجتماعي يرحب ويسعي بالفطرة لهذا التعديل الوقائي لضبط المفاهيم والمصطلحات ويتطلب ذلك خطة توعية وطنية شاملة, تشمل الإصلاح التعليمي واستيعاب الشباب, وتواتر الحملات الإعلامية في وسائل الاتصال الجماهيري لنشر ثقافة احترام القانون, فعلي الخبراء أن يدلونا علي سلم الأولويات بأسلوب علمي منظم لا أسطوري خرافي طفولي, لا يملك إلا السمع والطاعة! لمزيد من مقالات وفاء محمود