رغم حذرها الظاهر من امكانية نجاح المبادرة الروسية بشأن الأسلحة الكيميائية السورية, فإن بريطانيا لم تستطع إخفاء الارتياح من الخطوة الروسية( التي قبلتها دمشق فورا) لأنها حفظت ماء وجه القيادة البريطانية وأعفتها من دور الكومبارس في إدارة الأزمة بين سوريا والولاياتالمتحدة. أوضح مظاهر الارتياح تمثل في أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون كان أول زعيم أوروبي يهلل, وإن بحذر, بالمبادرة. واعتبرها خطوة كبيرة للأمام يجب تشجيعها. وعلي الفور أبلغ مجلس العموم, البرلمان البريطاني, في بيان رسمي بموقفه الإيجابي من المبادرة, التي يبدو انها ستوقف, مؤقتا علي الأقل, أي ضربة عسكرية أمريكية لسوريا. يأمل كاميرون طي صفحة الهزيمة البرلمانية التي لطخت سمعة أدائه السياسي بسبب دعمه للحرب علي سوريا. فبإرادته اتبع القاعدة الجديدة التي تحكم الطموح العسكري البريطاني في العالم, فدفع ثمنا سياسيا باهظا يقتطع من سمعة بريطانيا ورصيد تحالفها مع الولاياتالمتحدة. تقول القاعدة, التي تعهد زعيم حزب المحافظين خلال الحملة الانتخابية عام2010 بالالتزام بها في حالة فوزه, إنه لاحرب خارج الحدود بدون إذن البرلمان. وترسخت القاعدة عندما تحالف المحافظون مع الديمقراطيين الليبراليين, الرافضين للحرب من حيث المبدأ, لتشكيل الحكومة الائتلافية الحالية. وانكسر بذلك احتكار رئيس الحكومة لسنوات طويلة قرار الحرب متجاهلا نواب الشعب. وكان آخر رئيس وزراء مارس هذا الاحتكار, متجاهلا الغضب الشعبي العارم, هو الزعيم العمالي توني بلير, بتحالفه العسكري مع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن الذي دمر العراق وأفغانستان. أخطأ كاميرون قراءة المزاج العام في بريطانيا, وظن أن تركيز الإعلام علي الحرب الأهلية في سوريا وتوابعها الإنسانية البشعة, خاصة بعد واقعة الهجوم بالسلاح الكيميائي في غوطة دمشق في الحادي والعشرين من أغسطس الماضي, سوف يسهل عليه اللعب علي مشاعر أعضاء مجلس العموم. ورغم أن خلاصة الاتصالات الهاتفية والاجتماعات الطارئة بينه وبين زعيم المعارضة العمالية إيد( إدوارد) ميلبناند, التي أعلنت لاحقا, كان يفترض أن تدفعه إلي التريث, فإنه استعجل واستدعي البرلمان من إجازته للحصول علي موافقته علي مشاركة بريطانيا في أي عمل عسكري أمريكي محتمل في سوريا, حتي قبل الوقوف علي ماحدث والطرف المسئول عن الهجوم الكيميائي. أثار الاستعجال تساؤلات عن دوافعه, رد عليها بإيجاز قاطع الدلالة كين كلارك عضو مجلس الوزراء البريطاني( من المحافظين) قائلا: الأمريكيون أرادوا أن نجري تصويتا سريعا للغاية لكن صدمة العراق أدت إلي هزيمة الدعوة لعمل عسكري. ترتبط صدمة العراق في أذهان البريطانيين ونوابهم بكذبة بلير وبوش الكبيرة بشأن تقارير الاستخبارات المفبركة بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية, ونتائجها التي تعدت تدمير العراق لتشمل تشويه سمعة بريطانيا التابعة للولايات المتحدة, وقتل الجنود البريطانيين في العراق, وتردي الاقتصاد والخدمات في بريطانيا بسبب تمويل الحرب علي حساب معيشة البريطانيين في الداخل. كما ترتبط الصدمة أيضا بأن حرب بلير/بوش علي العراق لم تكن مدعومة بقرار من مجلس الأمن الدولي. غير أنه حتي لو توفرت أدلة قاطعة علي صدق مزاعم الاستخبارات البريطانية والأمريكية والتركية والفرنسية والسعودية والقطرية بشأن مسئولية النظام السوري عن هجوم الغوطة الكيميائي, فإنه يصعب توقع موافقة مجلس العموم في أي تصويت علي قرار الحرب. برهان ذلك ما دار في جلسة مجلس العموم الاستثنائية يوم التاسع والعشرين من الشهر الماضي. فالمجلس ناقش مقترحين للحكومة والمعارضة, غير أن الإعلام ركز فقط علي مقترح رئيس الوزراء لأنه, بطبيعة الحال هو السلطة التنفيذية والداعي لاجتماع المجلس, والمتضرر الأول من الهزيمة البرلمانية المهينة. واعتبر مستشارو كاميرون, بمن فيهم المدعي العام الذي وفر له أساسا قانونيا للعمل العسكري, أن الاقتراح بهذه الصيغة يستجيب لمخاوف ومطالب وتحفظات المعارضة وقلق الرأي العام, فهرع إلي البرلمان حتي قبل انتهاء مفتشي الأسلحة من عملهم, وقبل أن يناقش الكونجرس الأمريكي الأمر. ورفض النواب البريطانيون الاقتراح بأغلبية13 صوتا. في المقابل, طرحت المعارضة العمالية مقترحا مضادا. ومع تأكيده القناعة بضرورة أن ينهض مجلس الأمن بمسئولياته في حماية المدنيين ويساند خطوات توفر حماية إنسانية للشعب السوري وقد رفض الاقتراح أيضا بأغلبية12 صوتا. ومع هذا الرفض الذي أهان الحكومة وصدم الإدارة الأمريكية, اتهم كاميرون المعارضة بالانتهازية السياسية التي جعلته يدخل من باب الفشل التاريخ البريطاني كأول رئيس حكومة خلال أكثر من300 سنة يرفض لها البرلمان طلبا بمشاركة بريطانيا في حرب خارج الحدود. وهذا الاتهام يتجاهل فشل المحافظين أنفسهم في إقناع نواب الائتلاف الحاكم في البرلمان بصواب موقف زعيمهم, فأربعون منهم صوتوا ضد الحكومة. كما أنه يتجاهل أنه من بين الصحف البريطانية الكبري, لم تؤيد سوي صحيفة التايمز, صراحة مشاركة بريطانيا في الضربات الأمريكية المتوقعة. واستمر كاميرون في هجومه علي المعارضين ووصفهم بالضعف لأنهم اختاروا النهج السهل السياسي وليس النهج الصائب الصعب. وبعد أيام تبين أن الشعب البريطاني يري أن نهج كاميرون هو الخاطئ. وحسب نتائج استطلاعات الرأي, فإن حوالي72 في المائة من البريطانيين يرون أن نوابهم اتخذوا القرار الصائب بمنع مشاركة بريطانيا في الحرب. وأعطت تلك النتائج أيضا ميلباند دفعة جديدة ليس فقط ليتباهي داخل حزبه بأنه أذل الائتلاف الحاكم, وبإنه هو المعبر عن نبض الشعب, ولكن بأنه أيضا أكثر التزاما بالقانون الدولي الذي تتحدث عنه أمريكا وحليفتها باستمرار كمبرر للحرب المرتقبة. وذكر المحافظين والليبراليين بأن العمال وافقوا من قبل علي العمليتين العسكريتين في ليبيا(2011) وكوسوفو(1998) دون تفويض من مجلس الأمن لأنهما كانتا في إطار القانون الدولي. وبدا أنه مع احترامه للتحالف الأمريكي البريطاني القائم علي القيم المشتركة فإن ميليباند يحتفظ بحق بلاده, إحدي القوي الكبري في العالم, بأن تحدد بنفسها وجهة مصالحها. وقال دون تردد أو لبس مهما يكن التحالف وثيقا, فإنه في مناسبات, قد تتبني بريطانيا رؤية مختلفة.. ويحق للشعب البريطاني أن يتوقع أن يعكس برلمانه رؤاه ويعبر عن همومه ويمثل المصلحة الوطنية. ومع كل محاولات كاميرون التهوين من تأثير موقعة البرلمان علي التحالف الأمريكي البريطاني, فإن ظواهر التأثير, المؤقت علي الأقل, بدت جلية في استبعاد القادة العسكريين البريطانيين( والإبقاء علي نظرائهم الفرنسيين من اجتماع مشترك للقيادة المركزية الأمريكية في فلوريدا منذ أيام. وتجاهل أوباما لكاميرون في قمة العشرين في روسيا. ورغم المبادرة الروسية, فإن لندن تواصل البحث عن دور تساعد به واشنطن في سعيها للضغط علي نظام الأسد حتي تغييره, لتبقي في الصورة حتي وإن وقفت في الخلف مثل الكومبارس, وليس بجانب, الحليف الأمريكي المأزوم. وطريقة كاميرون, كما قال, هي استخدام عضلات بريطانيا الدبلوماسية, والخطابية بشعارات مثل الصراع بين الخير والشر في سوريا والاختبار الحاسم الذي تمر به مصداقية المجتمع الدولي, ربما يساعد في الترويج لحجة أوباما بأن الحرص علي التسوية السلمية للأزمة السورية لا يتعارض مع ضرورة ردع نظام الأسد بعد استخدامه, المزعوم, للأسلحة الكيماوية. ومقابل هذا الجهد, كافأ جون كيري بريطانيا, خلال زيارته الخاطفة لها الإثنين الماضي بوصفها بأنها أفضل شريك للولايات المتحدة.