إنها الديمقراطية علي الطريقة البريطانية.فعقب تصويت نواب مجلس العموم البريطاني( البرلمان) ضد قرار يسمح من حيث المبدأ لبريطانيا بالمشاركة في عمل عسكري ضد النظام السوري بنتيجة285 صوتا. ضد مشروع القرار و272 صوتا لصالحه, وقف صاحب المقترح ومؤيده الأول رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون معلقا علي رفض إقتراحه قائلا: من الواضح لي أن البرلمان البريطاني, معبرا عن وجهات نظر الشعب البريطاني, لا يريد تحركا عسكريا. لقد فهمت ذلك وستعمل الحكومة بناء علي هذا القرار. وخرجت الصحف تحمل عناوين ذات معني واحد: كاميرون في حالة يرثي لها بعد هزيمته, وس س ز بعد رفض نواب البرلمان توجيه ضربة عسكرية لسوريا وذلك في تأكيد واضح علي رفض الشعب البريطاني لإقتراح رئيس الوزراء بالمشاركة في عمل عسكري ضد النظام السوري. شبح العراق وتعود أهمية تلك الصدمة التي مني بها كاميرون لأكثر من سبب: أول تلك الأسباب يتعلق بتأثيرها ووقعها علي العلاقات البريطانية الأمريكية في المستقبل, وثانيها يتعلق بتأثيرها علي شعبية حزب المحافظين في الشارع السياسي البريطاني, وثالثها يتعلق بتأثرها علي ثقل كاميرون ذاته داخل حزب المحافظين الذي هزته اللطمة السياسية وأحدثت به إنقساما حيث صوت ضده ما يقرب من30 نائبا محافظا. وتشير الشواهد إلي أن ديفيد كاميرون دخل معركته السياسية من أجل الحصول علي موافقة مجلس العموم علي المشاركة في توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري بحجة إستخدام النظام السوري لسلاح كيميائي ضد المدنيين وفي مخيلته تلك الخطوة المشابهة التي أقدم عليها رئيس الوزراء العمالي الأسبق توني بلير عام2003 عندما دخل ببريطانيا الحرب في العراق مع قوات الولاياتالمتحدة التي كانت تقودها أحلام النصر الجامحة للمحافظين الجدد بزعامة جورج بوش الإبن. ولكن, وعلي غير المتوقع, تناسي كاميرون مواقفه الإنتخابية التي أتت به إلي السلطة!! فموقفه الإنتخابي الذي عبر عنه في عام2010 كان ناقدا وبشدة لمواقف الحكومات البريطانية المتعاقبة التي كانت تسارع بدعم الولاياتالمتحدة دون وضع مصالح بريطانيا في الحسبان. لقد توجه كاميرون إلي مجلس العموم وتركيزه منصب علي ما يمكن أن تجنيه بريطانيا من التعاون مع الولاياتالمتحدة في ظل الأزمة المالية العالمية علي وجه الخصوص, وما يمكن أن يجنيه هو شخصيا من مجد إذا ما هاجم سوريا تحت مظلة مواجهة السلاح الكيميائي المستخدم ضد المدنيين ومساندة المعارضين للنظام السوري تحت شعارات الحرية والديمقراطية والدفاع عن الإنسانية. لقد فاجأت نتيجة التصويت الجميع, وتركت كاميرون مشوشا غير قادر علي تقديم الدعم لحليفته الإستراتيجية الولاياتالمتحدة في مغامرتها العسكرية المحتملة. وعادت إلي ذاكرة الجميع فضيحة التقارير غير الدقيقة حول أسلحة الدمار الشامل بالعراق عام2003 والتي ثبت كذبها. وأشارت الصحف البريطانية إلي تقارير أجهزة المخابرات حول إستخدام السلاح الكيميائي في سوريا. ونشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية موضوعا تحت عنوان الأدلة علي فظائع الأسلحة الكيميائية مازالت غير مقنعة. وتم إلقاء الضوء علي الانتقادات الموجهة لتقرير أجهزة المخابرات البريطانية وفشلها في توفير دافع قوي ومقنع لتدخل بريطانيا عسكريا في سوريا. ويبدو أن كاميرون, ودون قصد منه, قد تسبب في استدعاء ذكري العراق بمرارتها وآلامها لتهيمن علي مداولات مجلس العموم. فقد لاحظ الحضور أن نصيب العراق من خطاب رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في جلسة البرلمان جاء مماثلا لنصيب سوريا, وعقب إنتهاء التصويت بالرفض أوضح كاميرون الحقيقة التي توصل إليها وهي أن رغبة الرأي العام البريطاني تأثرت بحرب العراق! ما بعد الصدمة لقد أدرك الشارع السياسي البريطاني فشل كاميرون في تقييم الرأي العام المحلي. فقد بذل جهدا كبيرا في محاولة التأكيد علي أن المشاركة في هجوم محدود علي سوريا لا علاقة له بما حدث في العراق, ولكن كان قطاع كبير من الرأي العام قد آمن منذ عقد كامل بفكرة عدم الإنزلاق في الحروب, ومن ثم لم يتقبل الرأي العام منطق كاميرون وتبريراته. وإستند كاميرون للعديد من الفزاعات, فأتباعه حذروا من عواقب التصويت بالرفض, وقالوا إن مكانة بريطانيا الدولية تقلصت بشكل كبير نتيجة التصويت بالرفض.كما أن العلاقات المتميزة بين بريطانيا والولاياتالمتحدة ستتعرض للضرر. ولكن ومرة أخري فإن الخدعة لم تنطل علي ساسة بريطانيا المخضرمين الذين رأوا أن تلك الآراء مبالغ فيهاس. زس بأنها سياسة غير سوية تلك التي تزج ببريطانيا للمشاركة في أزمة خارجية لمجرد الدفاع عن نفوذها الدولي. الخروج الآمن أما كيف يخطط كاميرون للخروج الآمن من أزمته, فقد بدت بوادره عندما تخلي عن إعادة سريعة للتصويت علي إقتراحه بالهجوم علي سوريا. فنظريا, كان من الممكن لكاميرون أن يكرر المحاولة, إلا أنه وبدلا من ذلك أدرك أن البرلمان البريطاني قد توصل إلي قرار نهائي بشأن هذه القضية, وهو يعلم أن فشله في هذه الخطوة ليس نهاية المطاف بل هي جولة فاشلة في مباراة كبيرة. فكاميرون يدرك أن هناك قطاعا كبيرا مستقلا ومعارضا له داخل حزب المحافظين الذي ينتمي له ويمكن أن يصوت ضده مهما كانت تبعات ذلك التصويت. كما يدرك الآن أن إد ميليباند خصمه الرئيسي وزعيم حزب العمال المنافس يمكن أن ينال منه ويلحق به لطمة سياسية قاسية. وعلي الصعيد الخارجي لا يرغب كاميرون في رؤية الولاياتالمتحدة وهي ذاهبة مع فرنسا للقتال ضد سوريا في غياب بريطانيا. ويدرك كاميرون أن بإمكانه الإلتزام بقرار مجلس العموم والفوز برضا شعبه ومن ثم محو لطمة التصويت إذا أقدم علي تكرار ما فعله كل من رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ويلسون الذي قرر عدم إشراك القوات البريطانية في حرب فيتنام, وهو ما كرره رئيس الوزراء السابق جون ميجور فيما يتعلق بالأزمة الصومالية عام.1992 كما يمكن أن يقوم بمناورة سياسية جديدة يتمكن عبرها من تقديم شكل آخر من أشكال الدعم( المعلن أو الخفي) للولايات المتحدة حال الهجوم علي سوريا ليضمن بذلك المحافظة علي مصالح بريطانيا لدي البيت الأبيض. إنها السياسة البريطانية بجولاتها اللانهائية.