إن انعزال ثوار يناير عن الجماهير مهما تكن المبررات والأسباب هو الخطر الحقيقي الذي لا يهدد حياتهم فقط بل يهدد الثورة ويهدر دماء الشهداء. مهما يكن صدق الأفكار وثوريتها ونقاء أصحابها وتجردهم واستعدادهم للتضحية, فإن كل ذلك لا يكفي لتحقيق ثورة ناجحة بل أقصي ما يمكن أن يحققه هو أن يتحول هؤلاء إلي نموذج تاريخي أو نصب تذكاري ملهم جدير بكل الاحترام والتقدير, ويبقي التحدي الحقيقي للثورة الناجحة هو قدرتها علي اجتذاب جماهيرها. لا يوجد شعب من الثوار, بل إن تعبير الطليعة الثورية يعني في جوهره أنها الأقل عددا وأن الضمان الحقيقي بل والوحيد لنجاح الثورة هو قدرتها علي اجتذاب الجماهير الأقل ثورية والاكثر عددا ممن كانوا يصمتون خوفا أو جهلا أو رياء, ومن كان يداعبهم الأمل في إصلاح النظام من الداخل, الي جانب اصحاب الثأرات الشخصية من مرتكبي الجرائم الجنائية الذين عانوا من السجن والاعتقال بل ومن التعذيب, ويضاف إلي هؤلاء جموع العاطلين والمحرومين والمظلومين وأطفال الشوارع, ولا بأس مع استمرار صمود الثورة وتأرجح ميزان السلطة أن يسارع بالانضمام إلي صفوفها الطامعون في حجز أماكن في النظام الجديد, تلك الكتلة الجماهيرية الضخمة متباينة الخصائص هي التجسيد الحقيقي للثورة وهي التي بقدر ضخامتها تجعل من المستحيل تماما القضاء علي الثورة بالقوة, ولذلك فمن المفترض ان تحرص الطليعة الثورية علي العض عليها بالنواجذ. ويكفي أن نقارن بين جيفارا وغاندي وسعد زغلول, لقد تحول مصرع جيفارا إلي أغنية يصدح بها الثوار في جميع انحاء العالم, وأصبحت صورته علي الصدور والرايات تكاد لا تخلو منها ثورة معاصرة, فقد كان نقيا ثوريا شجاعا متجردا, ولكن قوات الجيش البوليفي بمساندة من المخابرات الامريكية تمكنت من سحق الطليعة الثائرة واصطياد جيفارا وإعدامه في أحراش بوليفيا. وقد أشار جيفارا بوضوح وفي أكثر من موضع من مذكراته الي أنه لم يستطع اجتذاب اي من سكان المنطقة المحليين للانضمام إلي الميليشيا التابعة له خلال11 شهرا التي حاول خلالها تجنيد المجندين, وكيف أن الفلاحين لا يقدمون لنا أي مساعدة ويتحولون الي مخبرين إنها العزلة عن الجماهير. بالمقابل لم يكن سعد زغلول ثوريا بالمعني الجيفاري, ولم يكن الموقعين علي عرائض تفويض الوفد مفوضون من جميع اطياف الشعب المصري, لقد كانوا مجرد طليعة شعبية ولكن تلك الطليعة نجحت في اجتذاب جموع شعبية هائلة فاجأت حتي سعد ورفاقه مما حقق ثورة1919 وظل هدير الجماهير الوفدية قادرا علي اختراق جدران قصر عابدين بعد رحيل سعد بسنوات. وبالمثل فإن نجاح ثورة غاندي السلمية كان مستحيلا لو لم تلتحم بها أطياف متباينة من الشعب الهندي حالت دون سحقها ومكنت الهند برغم الفقر والتعدد الديني واللغوي وبرغم ارتفاع نسبة الأمية بما يفوق نظيره لدينا من ترسيخ شعارات ثورة غاندي بل وإقامة نظام انتخابي لا مثيل لنزاهته. الثورة الجماهيرية يستحيل سحقها بالقوة, ولكن يكمن مقتلها في انفضاض الجماهير من حول الطليعة الثورية, وفي نفس الوقت اندفاع تلك الطليعة الي الانقسام ثم التشرذم والتعالي بحيث يمكن في النهاية دفع الجماهير التي التفت حولها عند بدايتها الي الابتعاد عنها بل وتأييد سحقها. ويتطلب القضاء علي الثورة أن ينتقي أعداؤها ما يناسب الحالة من أليات متوافرة نصا وبكافة اللغات في بحوث ودراسات علم النفس السياسي التي تناولت ظواهر تماسك وتفكك الجماعات, ولعل اهم تلك الآليات. ترويع الجماهير المساندة لتلك الجماعة وشيطنة صورتها في عيونهم: إن هذه الجماعة ليست بالجماعة الثورية المخلصة كما تدعي. إنها جماعة من البلطجية وقطاع الطرق وأطفال الشوارع تحركهم أيد اجنبية تريد تدمير الوطن. لقد تسببوا في تعطيل الانتاج وهروب السياح والمستثمرين وفي النهاية فإننا جميعا مقدمون لا محالة علي مجاعة وانهيار اقتصادي كامل. ممارسة اللعبة القديمة الشهيرة: لعبة الطيب والشرير بهدف تفتيت قلب الجماعة المستهدفة بالتفرقة بين الثائر الهاديء والثائر المتشدد. ولا بأس من التلويح من بعيد بجزرة لمكافأة أحدهما, وما ان يبتعد قليلا متجها اليها, حتي تتوالي الضربات علي الآخر الذي يزداد يقينا بصحة موقفه الثوري المبدئي وبخيانة زميله, فيسرف في إدانته وتزداد مواقفه تشددا بل ويمضي في تطهير صفوفه ممن يلمح فيهم شبهة تردد, ولا يملك الاخر وقد انهالت عليه لعنات رفيق الطريق الا أن يوليه ظهره ماضيا في طريقه محاولا من جانبه ايضا تطهير صفوفه ممن يلمح لديهم قدرا ولو ضئيلا من حنين لذكريات الصف الواحد. كلمة أخيرة: ليس في كل ما سبق كلمة واحدة جديدة لم نكتبها ويكتبها غيرنا من المتخصصين في علم النفس السياسي, ولكن يبدو أن طرفا واحدا غير الثوار والجماهير هو الذي استوعب الدرس وطبقه ومازال بحرفية عالية وقلب بارد ويد لا ترتعش. ويبقي الأمل معقودا علي تلك الجماهير البسيطة التي أثبتت وتثبت عمليا في وقت الازمات انها عصية علي الاستسلام وأنها تسبق طلائعها. المزيد من مقالات د. قدري حفني