أفسدت سلطة اليمين المتأسلم علي شعب مصر التحول نحو الحكم الديمقراطي السليم مرتين خلال المرحلة الانتقالية الأولي. مرة بالإصرار علي الانتخابات النيابية والرئاسية قبل وضع الدستور. ولعلنا نفهم الآن لماذا كان تصميمهم علي القفز علي السلطة أولا. وأفسدته مرة ثانية بتشكيل جمعية تأسيسية معيب قوامها ومشكوك في قانونية قيامها, ومنع دهماؤها المحكمة الدستورية من الفصل في صحة قيامها, انتهت بسرقة دستور بليل, بتكلفة تعدت المائة مليون جنيه تفوح منها رائحة فساد عفن ورشي سياسية دنيئة, والأخطر أن المشروع كان يهدر مقومات الدولة المدنية الحديثة التي وعدوا بها وعرضوه للاستفتاء الشعبي من دون ان يتمتع بالتوافق المجتمعي اللازم لكي يبقي ويدوم, علي الرغم من الوعد القاطع من الرئيس المعزول ألا يفعل ذلك. لقد أخطأ الشعب بعد الموجة الثورية الأولي في يناير2011 بتسليم قياد الثورة لمن لم يصونوها. وحيث الشعب فاعل تاريخي ضخم وجبار, تكون أخطاؤه جسيمة ويترتب عليها تبعات فادحة. ولكن يحمد للموجة الكبيرة الثانية الثورة الشعبية العظيمة أن أعادنا الشعب, بمدد كريم من قواته المسلحة, إلي الطريق المنطقي السليم للتحول إلي الحكم الديمقراطي الصالح, وذلك بالبدء بوضع دستور يليق بالثورة ثم إجراء الانتخابات علي هديه. أخشي أن السلطة الانتقالية الآن في حرصها علي المصالحة الوطنية, الذي يبدو لي مغاليا في البراءة بالسعي وراء مصالحة شكلية يصعب أن تدوم وبأي ثمن, بالإصرار علي إشراك عناصر من تيارات اليمين المتأسلم في العملية السياسية إلي حد منحها سلطة الاعتراض علي خيارات وقرارات الحكومة المؤقتة, رئاسة ووزارة, وحتي نقضها. ولا ندري من أعطاهم هذه الميزات التي لا يجوز أن يستحقها أي طرف في العملية السياسية الانتقالية, وبالتأكيد لا يستحقها طرف ينبغي أن يكون تاريخه السياسي الحديث محل تمحيص, بل شجب في احيان كثيرة. ولعل الحكومة المؤقتة يخالجها رعب, مبرر جزئيا, من شرور تيار اليمين المتأسلم إن أقصي. ولكن الاشتراك في المصالحة ميزة يجب علي من يستحقها أن يقدم مسوغات اشتراكه فيها وليس من بينها التهديد والوعيد والشروط المسبقة. كذلك فإن الحرص علي المصلحة الوطنية وعلي ألا يلدغ الشعب والوطن من جحر مرتين يتطلب علي جانب الحكومة المؤقتة توليفة من الإيقاع الثوري والإقدام والجسارة والشدة في الحق أظنها خافتة حتي الآن. وقد ظهر هذا الموقف المعاكس تحديدا من حزب النور السلفي بتمنعه عن المشاركة في لجنة الخمسين ثم قبوله علي مضض مع الاعتراض المسبق علي بعض توصيات لجنة العشرة. وأخشي أن يسعي الحزب للعب الدور المعسر نفسه الذي قام به في الجمعية التأسيسية السابقة أو لتعطيل لجنة الخمسين إن لم يكن تفجيرها من الداخل. هنا يتعين ألا ينسي أولو الأمر في الحكومة المؤقتة أن السلفيين كانوا القوة الضاربة لتحالف اليمين المتأسلم في إفساد دستور2012 ليخرج نازعا إلي دولة دينية الطابع ومجتمع يسوده التعسير والتنفير من الإسلام. كما أن المشاركة في العملية السياسية في هذه الفترة الانتقالية الثانية يتعين ألا تتاح برحابة لقوي شاركت في اعمال العنف بعد الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية العظيمة. وقد تبين أن جموعا من السلفيين قد شاركت في بؤرتي الإرهاب الإجرامي في اعتصامي رابعة والنهضة, كما أن بعضا من ابشع جرائم الإرهاب بعد30 يونيو, مثل الاعتداءات الآثمة في سيناء وإلقاء الأطفال من أعلي المباني في الإسكندرية, قام بها محسوبون علي من يسمون, كذبا وزورا, السلفية الجهادية, فليسوا بمجاهدين ولايمتون للسلف الصالح بأي صلة. من جهة أخري, يكشف الجدل, الجديد القديم, حول أسلوب الانتخابات النيابية, بالقائمة أو فرديا, عن نقيصة في التشكيلة الحزبية الراهنة, وفي الوضعية السياسية العامة, في مصر تقلل, تحت الظروف الراهنة, من احتمال وجود مجلس نيابي يعبر عن الثورة الشعبية العظيمة ويكفل نيل غاياتها في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع علي أرض مصر. هنالك أوجه ضعف وهشاشة شديدة في الأحزاب القائمة. وكلها تشترك في ضعف عمقها الشعبي وقلة وجودها بين عامة الناس في عموم البلاد لقلة عملها الحزبي ولهيمنة شخصيات من وجهاء السياسة عليها. كما تشترك جميعها في قلة وجود أجيال الشبيبة, لاسيما النساء, خاصة في مستوياتها القيادية. لذلك فمن الطبيعي ان تتخوف الأحزاب القائمة, من معتادي عقد الصفقات الانتخابية, من أسلوب الانتخاب الفردي وتفضل عليه طريقة القائمة. وصحيح أن الطريقة الفردية ستسمح لبعض شخوص النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه بالترشح والفوز. وليس من غضاضة ما دام الشخص لم يحرم من حقوقه السياسية بحكم قضائي واجب النفاذ. وينطبق هذا المبدأ بالمثل علي من انتموا إلي جماعة الإخوان المخادعين كافراد. والنظام الفردي كان كذلك مدخلا لغلبة العصبيات ولدخول الأغنياء للمجلس النيابي, خاصة عند اتساع الدوائر الانتخابية. وعلي جانب آخر, فالقوائم كانت دوما وسيلة للرشوة السياسية, فأحد الأحزاب القديمة اعتاد تأجير مواقع علي قائمته, وبعض من يعادون الإخوان الآن نجحوا في الانتخابات النيابية السابقة علي قوائمهم ثم تبين لهم غي الإخوان الضالين. لكل ذلك فقد يكون الاختيار الأسلم في انتخابات المرحلة الانتقالية هو الجمع بين نظامي كل من الفردي والقوائم, بشروط تقلل من مساوئ كل منهما مثل قصر القوائم الحزبية علي من مر علي عضويتهم بضعة أشهر متصلة. وضمان شرف العملية الانتخابية ونزاهتها بوضع قيود صارمة علي توظيف المال في الانتخابات. إلا أنه في منظور الأجل الطويل, لن يتسني قيام حكم ديمقراطي سليم يعبر عن الشعب ويليق بالثورة الشعبية العظيمة إلا بقيام أحزاب جديدة تعبر عن نبض الشارع ويسود فيها أجيال الشبيبة والمستضعفين في مصر. وأحد المداخل المهمة لهذه النقلة في الحياة السياسية المصرية هو تحول النقابات المستقلة إلي احزاب سياسية, ربما بعد اندماج بعضها. وإن قامت أحزاب تعبر بشفافية عن العمال والفلاحين, وتلقي قبولا واسعا بينهم, فقد يكون في هذا مبرر للتخلص من حرج إلغاء قيد تخصيص نصف المجلس النيابي لفئتي العمال والفلاحين الذي أسيء استغلاله طويلا, وقد يكون قيام مثل هذه الأحزاب وسيلة أصدق لتحقيق الهدف الذي وضع الشرط من أجله اصلا. ولكي نصل إلي هذه الأحزاب الشعبية بحق القادرة علي النضال من أجل نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة فعلي الحكومة المؤقتة أن تيسر قيامها وتدعم إنشاءها ولو لفترة معينة, حتي وإن اقتضي الأمر تاجيل الانتخابات النيابية قليلا وتقديم الانتخابات الرئاسية. وللحديث بقية.. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى