في سرعة البرق تركت العروس ذراع عريسها وخرجت عن الصف لتخطف قبلة من حماتها وتعود بنفس السرعة قبل أن تسمع تنبيها من منظمي العرس. كانت الحماة بعباءتها المطرزة وطرحتها السوداء جالسة وسط المدعوين الذين تخلوا عن أماكنهم عندما التقطت أسماعهم نغمات الزفة الدمياطي معلنة بدء طابور العرائس والعرسان, فانتفضت من مكانها- رغم بدانتها- وشقت الزحام لتتصدر المدعوين الذين شبوا علي أطراف أصابعهم في محاولة من كل منهم لرؤية العروس التي تخصه. إنطلقت الزغاريد ومعها طفرت الدموع من العيون, دموع الفرح من عيون البعض ودموع الشفقة من البعض الآخر.. فالعرائس من اليتيمات الذين نظمت لهن إحدي جمعيات تنمية المجتمع حفل زفاف جماعي, والحفل هو ختام رحلة استمرت لأشهر عديدة قامت العرائس خلالها بتقديم طلبات وأوراق ومستندات فحصها العاملون بالجمعية وحددوا الأولي منها ثم قاموا بشراء الأجهزة المنزلية وتسليمها للعرائس وتحديد مكان العرس واتفاق مع إدارته ومع الكوافير الذي تطوع بتجميلهن وتبرع بمقابل تأجير فستان وطرحة وتاج لكل عروس. بعد أن أخذ العرائس والعرسان أماكنهم في الكوشة الجماعية جلس الأهل في الجهة المقابلة في انتظار وصول الفنانين الذين تم الإعلان عن تطوعهم لإحياء الحفل. معظم العرائس- رغم غياب الأم أو الأب أو كليهما- حضر عدد من أقاربهن إلا تلك العروس التي استرسلت حماتها في رواية قصتها عندما همست جارة لها: ربنا يسترك دنيا وآخرة فردت: يعلم ربنا إن فرحتي بيها أكبر من فرحتي بابني.. فالعروس يتيمة الأبوين, توفيت والدتها بعد وفاة والدها بعامين وهي لم تكمل عامها الثالث, وفي غمرة الحزن علي الأم الشابة تسابق الأهل علي رعاية الصغيرة التي فازت بها إحدي قريباتها, وبمرور الوقت كبرت الطفلة ونسيها معظم الأقارب الذين كانوا يتكفلون ببعض نفقاتها, ومع الأيام بدأ نفور القريبة من وجودها. تقول الحماه خطفت قلبي من يوم ماشفتها.. تجلس علي السلالم وأحس إنها هربانة من الكره والذل ولا أسمعش منها شكوي, وأعزم عليها بالأكل وهي جعانة فتقول شبعانه, والله حسيت إنها بنتي اللي كان نفسي فيها لأني ماخلفتش بنات. تحكي أنها فاتحت إبنها في الزواج منها فقبل, وبعد يومين عاد مترددا لأن الشباب في المنطقة قالوا له إنها كانت تبيت أحيانا عند الجيران أو تجلس علي السلالم لساعات متأخرة ولا أحد يدري ماذا حدث لها, وهذا أمر في غاية الأهمية خاصة بالمناطق الشعبية, فلم تتردد الأم وصارحت الفتاة التي أكدت لها أنها شريفة وقد حافظت علي نفسها طوال سنوات عمرها التي قاربت18 عاما, ولها أن تتأكد بأي صورة تراها, وعادت الأم إلي ابنها وهي أكثر تصميما علي زواجه منها. من بين الجالسين همست سيدة في الصف الخلفي معبرة عن خوفها من أن يكون الدافع لحماسها لتزويجها لابنها هو ما تقدمه الجمعية من بوتاجاز وثلاجة وغسالة وصيني وتنجيد, وقالت أخري أو لأنها ستزوجها معها في الشقة لتخدمها, فاعترضت ثالثة ناصحة إياهما بأن يتقيا الله فهي فعلا تحبها ولو كان هذا هو غرضها لكانت أتت له بواحدة من دار الأيتام التي لا تجهز العروس فقط بل توفر لها سكنا مثلما فعلت أم فلان. الحوار الدائر في الخلف كان همسا ولم تسمعه أم العريس نتيجة الضوضاء وإلا كان لها معهم شأن آخر أيا كان الدافع لحماسها.. وبابتسامة ذات مغزي استدارت الحماه لجاراتها في الجلسة وفي السكن أيضا لتبلغهن أنها بعد انتهاء الفرح ستذهب لتبيت عند شقيقتها حتي يأخذ العروسان حريتهما وستعود لهم باكر عصرا, فداعبتها إحداهن غمزا وهي تقول: حرام عليكي سيبيهم يومين ثلاثة.. فردت في ثقة: وهي العروسة تقدر تبعد عني يومين؟!