قال الكاتب والمؤرخ الفرنسي الفونس دو لامارتين التاريخ يعلم كل شيء بما فيه المستقبل. يصور البعض تاريخ مصر القديمة علي أنه حلقات متصلة من التقدم في كل المجالات والانتصارات والفتوحات الحربية المستمرة. ولكن يظل هذالطرح غير صحيح تماما. لا شك في أن الحضارة الفرعونية من أعظم حضارات العالم عبر تاريخه الا أنها شهدت عصور اضمحلال ضعفت فيها الدولة وتفككت وتقلصت سلطة الملك فيها فلم يصر الفرعون حاكم القطرين الذي يحترمه ويخشاه الجميع. عبر تاريخ مصر الطويل كانت هناك ثلاثة عصور اضمحلال وتعرف بعصور الانتقال, وسنتطرق هنا الي عصر الانتقال الأول(2160-2055 ق.م.) الذي يتشابه الي حد بعيد مع ما تشهده مصر الآن من تغيرات, لأنه كان نتيجة مباشرة لاضطراب داخلي وليس غزوا خارجيا مثل عصري الانتقال الثاني والثالث. وجاء عصر الانتقال الأول بعد واحد من أزهي عصور مصر وحدة وقوة وازدهارا وهو عصر الدولة القديمة(2686-2125 ق.م.). ان عصر الانتقال الأول معروف بأنه حقبة مظلمة في تاريخ مصر دامت ما يقرب من مائة عام وترجع أسبابها إلي طول فترة حكم الملك ببي الثاني(2278-2184 ق.م.) والذي حكم مصر94 عاما تقريبا, مما ادي إلي انهيار اقتصادي وضعف في المنظومة الملكية أدت إلي تسيب أمني وارتفاع في معدل الجريمة بمختلف أنواعها. تسبب ضعف الملك في استقواء حكام الأقاليم الذين بدأوا يشعرون بالاستقلالية وانتشرت المحسوبية حتي أصبحت معظم الوظائف في مصر تورث من الأب للابن. وبدأ كبار الموظفين الذين كانوا يدفنون في الماضي في مقابر قريبة من هرم الفرعون في بناء مقابر خاصة فارهة في اقاليمهم الخاصة. وتفتت الدولة الموحدة التي تميز بها عصر الدولة القديمة. وكانت هناك أيضا عوامل طبيعية معاكسة كالانخفاض المتكرر لفيضان النيل قلة الأمطار التي ادت إلي استقرار البدو عند الحدود المصرية بحثا عن الطعام والشراب مما تسبب في زيادة الضغط علي موارد الدولة, كما أدت طول فترة حكم الملك ببي الثاني الي وجود عدد كبير من المتنافسين علي العرش مما زاد هذه المرحلة إضطرابا. وتقول بردية تصف هذه الفترة الأخ يحارب أخاه نري الآن الأرض محرومة من الملكية بفعل البعض الذين تجاهلوا الأعرافانظر, الحاجة تخيف القصر. الرجال يثيرون الفتن دون معارضة. انظر, الأرض مليئة بالعصابات, والجبان تشجع لسرقة غيره. فكيف انتهت هذه الفترة المظلمة من تاريخ البلاد؟ ما نعرفه هو أن نهاية هذا العصر كانت علي يد الملك الجنوبي منتوحتب الثاني الذي انتصر علي الشمال ووحد الدولة مرة أخري ليبدأ عصر الازدهار الجديد: الدولة الوسطي(2055-1650 ق.م.). فماذا فعل حكام هذا العصر لضمان وحدة الدولة وعدم العودة لتفكك الحقبة السابقة؟ أول شيء قام به منتوحتب الثاني هو تأليه نفسه كي يراه المصريون ابنا للآلهة. قام الملك أيضا بتحجيم قوة حكام الأقاليم عن طريق تمكين الحكومة المركزية وإرساء دعائم قوتها, وبدلا من وجود وزير واحد قوي للدولة قام بوضع وزير لمصر العليا وآخر لمصر السفلي تحت سلطة الملك مباشرة كما قلص عدد حكام الأقاليم, وقام بأعمال إنشائية في صورة مشاريع قومية, وأمن حدود الدولة. وكانت أولوية حكام الدولة الوسطي أن يبسطوا نفوذهم علي الجنوب لتأمين استمرار تدفق مياه النيل. وكي يضمن ملوك الدولة الوسطي عدم حدوث أي صراعات علي السلطة بعد موت الملك قاموا بوضع نظام الحكم المشترك, فيشارك ولي العهد الفرعون في الحكم كفرعون إضافي تمهيدا لانفراده بالعرش بعد موت سلفه. تشهد مصر الآن عصر انتقال رابعا, فالمجتمع منقسم, والحالة الأمنية مضطربة, والأوضاع الاقتصادية متدهورة. لا نتمني طبعا أن تطول هذه المرحلة كما طالت مراحل الانتقال في العصر الفرعوني نحن بحاجة قوية لعمل مخلص دءوب وروح وطنية شجاعة لمواجهة التحديات الراهنةكما أننا بحاجة لإحساس أعمق بالمسئولية نحو مستقبل وطننا لإعادة بعث الدافع القوي لوضع مصر في مكانها الطبيعي والذي يتوافق مع تاريخها وإمكاناتها البشرية والطبيعية وسيقوم الشعب المصري, والشعب وحده هذه المرة وليس فرعونا متألها بلعب الدور المحوري خلال الفترة المقبلة في استعادة التوافق والوحدة الوطنية والتي ستكون حجر الزاوية لدخول عصر القوة والرخاء وقد يسير الشعب علي درب أسلافه القدماء في بسط سلطة الوطن علي حدوده كافة وضمان استمرار تدفق مياه النيل والبدء في حالة حشد للصف الوطني لتنفيذ مشروعات قومية تعتمد علي الشباب من هذه الأمة تأتي بمردود اقتصادي واجتماعي عظيمين لخدمة المصريين كافة. لمزيد من مقالات د ياسمين الشاذلى