أو كلما اشتد الحنين إلي زمان النشأة الأولي وجدتك شامخا, ترنو إلي من البعيد, وأنت منتظر قدومي بالسلام عليك, تحية لم تخل من وجل, ومن حب معا, لكن وجهك وهو يعكس لي مزيج أبوة وحنو أستاذ يشجعني, فأخرج من حقيبتي التي اهترأت وريقات, نقشت علي فضاء سطورها كلماتي الأولي الأولي, وتنفرج ابتسامتك التي كانت تشجعني, وأنت تسمعني بصوتك ما كتبت, مصححا ومصوبا, متوقفا, متأملا, متسائلا, يدك التي امتدت لتأخذني وتصحبني, أتيه بأنني أمشي معك. حتي إذا ما حان وقت الدرس, تدخل ثم تجعل من كتاباتي مجالا للكلام هنيهة, وتقص للفصل الذي ترعاه كيف يكون حب الدرس, بدءا للذي نهواه من أمل, ومن أفق بعيد, مثلما كان الذين تفردوا بالسبق, عانوا من عذاب الحرف, واحترقت أصابعهم وهم يبنون من سحر الكلام بلاغة, ويشيدون منارة المجد التي لاتنطفيء. لكنه لا يكتفي بنصيحة أو سرد أقوال وأخبار وأمثال, ففي يده كتاب راقه حين اشتراه وإذا به يهديه لي, وكأني في حفل تكريم, وقد ظهرت نتيجتنا جميعا, في ختام الشهر, كيف حصلت من دون الجميع علي النهايات البعيدة, كيف كتبت في لغة مغايرة, وتعبير توشحه اقتباسات من الشعر الجميل, حفظته, ووضعته بين السطور, كأنه تاج الكلام, أتأمل الكتب التي أهديتها, تلك الدواوين التي صنعت بداياتي, وهيأت الدروب لموغل في الشعر, يأكله ويشربه, ويجعله عصير حياته, ومعلم الفصل الجليل, يظل مرتقبا, حصاد غراسه الأولي, نلقاه بالإعظام والتبجيل, ثم نغيب عنه مرددين كلام شوقي فيه, في كل الذين رعوا بدايتنا وصانوا بالرعاية والمحبة والأبوة كل مافينا, فلم يذهب سدي: كاد المعلم أن يكون رسولا. ها أنت ذا, آت إلي من البعيد, يضيء وجهك لي, وصوتك نافذ في القلب, حين أطل في ذاتي أراك, وأنت تبسط باسما خيط الرجاء, وأنت تسعفني بما أحتاج من زاد وماء,وأراك دوما طيلة الأعوام منتصبا مثالا, كان يحيي كل مدرسة, ويجعلها سماء للطيور وساحة تلد الضياء. ضاقت بي الأيام والدنيا, وزادي أنت, في كل المسير, وحين يفتقد الرجاء, يا شاعرا ذابت قصائده وعاشت في ضمائرنا, ونحن نراه صوتا عبقريا لايباري. لايجاري, حين يأخذ في الأداء. صوتا لدمياط التي قد كان فيها الشاعر الفذ المؤمل والمرجي, حين ينعقد اللقاء. فيجلجل الصوت المدوي, في مدار قلوبنا, ألقا ويسطع حين يفترش الفضاء هذا هو السحر المبين, وهذه لغة تزلزلنا, وإلقاء علي نبض الدماء. الهيبة العظمي تطل من الجبين, وسمته العالي شعاعة كبرياء. الشعر أعطاه التفرد, فارتقي, وسما فجاوز شأن أي معلم من حوله, والآخرون معلمو العربية الفصحي هناك يظل ينفخ فيهمو من روحه, لا تخفضوا رأسا, ولاتستسلموا ذلا, وكونوا بعض نخوته, وكونوا مثله في جرأة الرأي الذي يعلو, وفي وجه الجميع تحديا وركوب ظهر الحق, لا استسلام يوما في خضوع أو نفاق والتواء. ويظل سمتك لا يفارقني, وقد أصبحت مثلك, يامعلمنا أعلم صبيتي عاما دراسيا وحيدا سوف يصبح أجمل الأعوام في عمري, متطلعا دوما إليك, مسائلا نفسي: وكيف يكون موقفه إذا لاقي الذي تلقاه من عنت وكيف تكون ثورته إذا لمس الهوان معلما من زمرة العربية الفصحي؟ وكنت أراك في تضيئني, وتشير دوما بالصواب, وكان حد الكبرياء هو الصواب! حتي رأيتك ذات يوم, واقفا بين الحشود, تهدم البنيان, غاب العنفوان, وأنت تمسك بي لأسند وقفة الأسد الهصور وقد تناوشه الزمان, وهاض منه, فلا بريق العزم في عينيه, لالغة الزئير, ولا خطي ثبت الجنان... وحكي حكايته, وقد بلغ المعاش, وفر من يده الأمان. ماتت قرينته, ولم ينجب, فلا صوت يؤانسه, ولاأمل يعيش له, ولاحبل يمد لكي يجد الغريق وسيلة يطفو بها, يرجو النجاة, من الفراغ, من البرودة, من خمود العيش, من يوم تكرر فهو ألف, لا جديد لديه فيه, ولا وجود, ولاحياة, ولا سلام. وسألته عن شعره, لابد أن لديه ما ملأ الدواوين التي صدرت, وفيها ماحفظناه ورددناه في زمن الصبا, وعلي كواكبه تعلمنا السري, وتشتتت منا الخطي, حين اندفعنا في الحياة بلا اتفاق أو نظام. وظننت أني حين أسأله سؤال الشعر أوقظه, وأدفعه إلي أفق الجمال, لعله ينسي مرارة يومه, ينسي مآسي عمره, لكن دمعا ملء عينيه تجمد, لم يقل شيئا, وأوغل في الزحام! يأيها الرمز الجميل, أراك عن بعد, قريب السمت, أبكي فيك فيضا من عطاء أبوة وحنو أستاذ وصنعة قادر, يبني النفوس علي التمام! المزيد من مقالات فاروق شوشة