لعب تأخر السياسيين في اتخاذ القرار المناسب دورا هاما فيما وصلت اليه مصر الآن سياسيا وأمنيا واقتصاديا, ولأننا نعاني من اقتصاد مجهد ومنهك فإن علي الحكومة المؤقتة أن تعي جيدا أن مستقبل مصر ليس فقط في إدراك أهمية الزمن, بل في أهمية اتخاذ القرار الاقتصادي الجيد في التوقيت المناسب. فبعد التتابع السريع للاحداث خلال الشهر الجاري, ومع علمي بحقيقة أن واقعنا الاقتصادي في وضع لا نحسد عليه من فقدان توازناته الداخلية والخارجية, ومن فقدان لمصداقيته الائتمانية الدولية, وأن اقتصادنا قد أنهكته أحداث الشهور الثلاثين الماضية, فوجئت برد الفعل القوي للبورصة المصرية للأحداث بما عكس أن لدي المستثمرين ثقة في أن المستقبل الاقتصادي والمالي لمصر سيكون أفضل, وفوجئت أيضا بالوقفة الخليجية السريعة المساندة لمصر والتي كبتت منذ25 يناير.2011 واستخلصت من هذين المؤشرين أن المصريين والعرب قد استبقوا الحكومة في الافصاح عن ثقتهم في الاقتصاد المصري, وأنهم يتفهمون أن استعادة الاقتصاد المصري لقدرته علي النمو السريع هي أساس المستقبل الآمن لمصر. وحكومة مصر التأسيسية يجب ان تؤسس لهذا المستقبل, وأعلم أن أعضاءها علي دراية بأن مهمتهم ليست سهلة, ولكنهاغير مستحيلة, وخارطة الطريق الاقتصادي لابد أن تضع في سلم أولوياتها ضرورة استعادة التوازنات الاقتصادية الداخلية والخارجية المفتقدة قدر المستطاع, وأن تكون اولويتها الاولي هي تمهيد الطريق لحفز قدرة الاقتصاد المصري علي النمو وخلق فرص العمل في أسرع وقت ممكن بإجراءات محددة. فحفز القدرة علي النمو في الوقت القصير لا يمكن أن يتم إلا بإعادة فتح المصانع والمنشآت التي توقفت كليا أو جزئيا, وهو أمر يؤدي الي استيعاب العمالة التي فقدت عملها في العامين الماضيين, ويزيد من الانتاج والصادرات بما يفيد في إيجاد مناخ ثقة أفضل في قدرة وطننا علي النمو مستقبلا, وهذه مسئولية وزارة الصناعة والتجارة. وحفز القدرة علي النمو السريع يمكن ايجاده بسرعة حل مشاكل المستثمرين من العرب والاجانب الذين فقدوا قدرا كبيرا من ثقتهم في قدرة مؤسسات مصر علي احترام تعهداتها بعد ان فسخت عقود والغيت اتفاقات وشكك في تسعير. وأثق في أن المستثمرين العرب لا يرغبون في الانسحاب من مصر رغم ما تعرضوا له, وهذه مسئولية وزارة الاستثمار ووزارة التعاون الدولي. وحفز القدرة علي النمو السريع يكمن في مراجعة سريعة لدور مؤسسات تمويل المشروعات متوسطة وصغيرة الحجم التي قد استشري في الحكومي منها عناصر الترهل وكبر الحجم وفقدان القدرة علي السيطرة علي اطرافها المتباعدة, وتشجيع مؤسسات العمل المدني هو مسئولية وزارة التضامن الاجتماعي. ونأتي لدور البنوك الوطنية القوي في المعاونة علي تحقيق النمو السريع, فلابد من إيجاد إطار قانوني لعلاج مشاكل المديونيات التي تعثرت نتيجة للأوضاع السياسية والامنية التي تردت, ولابد من توفير تمويل معبري سريع يساعد علي تمويل رءوس الاموال العاملة في المصانع والشركات الراغبة في استعادة قدراتها الانتاجية, ومن الضروري تخفيض أعباء التمويل علي المقترضين.ويمكن للدولة أن تنشئ صندوقا لشراء مديونيات البنوك ولمعالجتها في اطار يعطي متنفسا للبنوك لتوجيه مواردها لتمويل الاستثمارات الجديدة, وهذه تدخل ضمن مسئوليات البنك المركزي. وحفز النمو الاقتصادي السريع يحتاج الي اتباع سياسات اقتصادية حافزة ومشجعة وغير تقييدية. صحيح أن السياسة المالية تعاني من قيد التزايد الكبير في حجم العجز في الموازنة العامة للدولة, ومن نقص الموارد, ومن ارتفاع حجم وعبء الدين العام الداخلي, وصحيح أن محاولة زيادة الموارد قد يستتبعها زيادة الاعباء الواقعة علي المواطنين, إلا أن هذا لا يعني أن زيادة الموارد المالية للدولة, أو أن زيادة فائض الموارد المتاح للتوظيف في شكل استثمارات أمر مستحيل. وأثق في أن القائمين علي السياسة المالية سيراجعون مختلف الاوعية الضريبية ليس بغرض زيادة الضرائب أو الرسوم غير المرتبطة بالحياة اليومية وبدخل المواطن المتاح للتصرف ولكن لتحسين التحصيل وتقليل الفاقد, وعليهم أيضا أن ينظروا الي الدخل الممكن توليده من ممتلكات الدولة أو ما يعرفه الاقتصاديون باسم الدومين العام.ولابد للمخطط المالي أن يصارح الشعب بأهمية تجميد أي زيادات عارضة في الرواتب والمكافآت لمدة محددة سلفا, عملا بمبدأ علي قد لحافك, وأن يعمل علي خفض الانفاق العام غير الضروري بكل الاشكال. وسيساعد التكامل بين السياستين المالية والنقدية في الأيام المقبلة علي خفض عبء خدمة الدين العام المحلي الذي يثقل كاهل الموازنة العامة من خلال خفض اسعار الفائدة. أما السياسة النقدية, وهي التي كانت تقييدية مستندة الي رفع معدلات الفائدة لتقييد الانفاق الاستهلاكي وتشجيع الادخار من ناحية, ولحماية قيمة الجنيه المصري من جهة أخري, فإن تحولها عن هذا الهدف في الوقت الحالي ضروري لحفز النمو الاقتصادي. فالبنوك المركزية العالمية قامت بالتحول الي معالجة مشاكل الركود الاقتصادي بعد الازمة المالية العالمية في عام2008 من خلال تخفيض أسعار الفائدة بل التدخل الكمي بحقن الاقتصاد بأموال لشراء الاصول المالية. وقد يري بعض الاقتصاديين أن تخفيض أسعار الفائدة يمكن أن يؤدي الي فقدان الجنيه المصري لقدرته علي الصمود أمام العملات الاجنبية, لكني أري أن أولويتنا ليست في حماية سعر الصرف, ولكن في حفز النمو السريع لاستعادة ما فقد من فرص. فالتضحية بثبات سعر الصرف مؤقتا يمكن أن تؤدي الي أثر جيد علي ميزان المدفوعات المصري, ومن الممكن لو تمت التضحية بمبدأ تثبيت سعر الصرف مؤقتا مع الرفع التدريجي للقيود المفروضة علي التحويلات الخارجية بضوابط محددة- أن يزداد تدفق مدخرات المصريين بالخارج, ولعل إجراءات بناء الثقة سوف يستتبعها دون شك عودة تدفقات الاستثمارات الاجنبية, خصوصا مع توجه القيادة المؤقتة الي تحقيق التحول الديمقراطي في مصر باجراءات سريعة, وهو ما يمكن أن يدعم احتياطياتنا من النقد الاجنبي لدي البنك المركزي. إن اتباع سياسة نقدية توسعية سيساعد علي حفز الاستثمار الخاص, وسيتيح لمالية الدولة ان تتنفس بقدر اكبر من الحرية إذا ما خفض عبء الفائدة الذي يضيق الخناق علي انفاسها, وسيمنع استمرار ظاهرة الاستبعادCrowdingOut التي تحققت في العامين الاخيرين بسبب الربحية المرتفعة لتوظيف اموال البنوك في اذون وسندات الخزانة العامة, وكل ذلك سيساعد علي نمو الانفاق الاستثماري. ولكل ما سبق أدعي أن استعادة التوازنات الداخلية والخارجية أمر ممكن وغير مستحيل خلال المرحلة الانتقالية السابقة لعودة الحياة السياسية في مصر الي طبيعتها, ونستبشر خيرا بانخفاض اسعار الغذاء عالميا وبتدفق منح المنتجات البترولية, وندعو الحكومة التأسيسية أن تبني لمستقبل مصر الاقتصادي بما يحقق صالح مصر, وصالح ابنائها, وصالح ثورتها بجد وباجتهاد, لأن اقتصاد مصر المجهد لا يحتمل ان يتحول الي اقتصاد عليل. لمزيد من مقالات د. محمود ابوالعيون