في كتاب فضائح الباطنية يصف الإمام أبوحامد الغزاليأساليب تلك الجماعة الماكرة في نشر دعوتها, وضم غمار الناس إليها, وصفا مستوعبا دقيقا; فهي دعوة ترمي إلي هدم أركان الدولة والاستيلاء علي السلطة باسم الإمامة الروحية المفتراة. من أهم هذه الأساليب التي يكشف عنها الغزالي تدريب الدعاة المنبثين في الأقطار علي دراسة شخصية الفرد المراد ضمه دراسة دقيقة والتعرف علي ميوله واتجاهاته حتي يأتيه الداعية من مدخل هذه الميول والاتجاهات فيتظاهر بموافقته ويتشبه به فيما يميل إليه مبالغا في ذلك حتي يستدرجه خطوة خطوة ويحوله إلي عضو عامل ليترقي به بعد اختبارات عديدة في مراتب النصرة والإخوة. ومنهج الباطنية هذا هو منهج كل جماعة أو حزب متطرف يعتقد أن بينه وبين المجتمع نفورا وتنابزا ويرغب في السيطرة عليه والاستيلاء علي مقاليد الامور فيه. وقد ابتليت مصر في العصر الحاضر بل ابتليت أوطان العالم العربي والاسلامي بأمثال هذه الجماعات في صور أشد مكرا وأخبث تخطيطا وأعنف دموية, وقد رأينا كيف استولت جماعة الاخوان علي السلطة انخداعا من الشعب بها, ثم رأينا كيف أفاق الشعب من سكرته وصحا كالمارد العملاق فاقتلعها اقتلاعا. وإنني لأتعجب كلما سمعت صيحات المصالحة الوطنية, ولا شك عندي في نبل مقاصد الذين يرددون هذه الدعوة فهم سياسيون مخلصون لوطنهم يريدون إقامة مجتمع ديمقراطي تتحقق فيه المساواة والحرية, خاصة أن هذا الشعار ترتاح إليه نفوس المصريين ارتياحا كبيرا, لانه يخاطب فيهم عواطف راسخة من الحب والألفة والتسامح ويمليه عليهم التاريخ والجغرافيا وطبيعة البيئة النزاعة الي الاستقرار قبل أن تمليه توجيهات الدين وضرورات السياسة, ومع ذلك كله أتوجس من عواقب ومخاطر مستترة وراء الأكمة, كما يقول المثل العربي, فلكي تنجح المصالحة الوطنية لابد أن نكون علي وعي ومعرفة دقيقة بالطبيعة النفسية والنمط الفكري الذي ينتهجه الطرف الذي تريد القوي الوطنية التصالح معه. فالذي عهدناه علي مراحل التاريخ الحديث أن قادة هذه الجماعات المتطرفة وأعضاءها سواء أكانوا هم جماعة الإخوان أم الجماعات التي أفرخها بيضها المشئوم, كلما هزموا علي المستوي السياسي وأحبطت مطامعهم, جددوا جلودهم الثعبانية بتنشئة جيل جديد, فينشط دعاتهم ومحبوهم المنتشرون في القري والأحياء الشعبية, ويتلقفون الصبية في مطالع المراهقة حيث يقع الصبي بين الطفولة والرجولة, وتتنازعه المرحلتان ويعاني في محاولة إثبات ذاته, فيوحون إلي وجدانه بمسلماتهم الدوجماطيقية التي تملؤه نشوة وزهوا واعتقادا بأنه متميز يستحق الإمارة, فهو أمير الجماعة اليوم وغدا سيصبح حاكما مؤيدا من الله, ولهم في ذلك أسلوب متدرج أشد إمعانا في الدهاء من أساليب أسلافهم القدماء, إنهم في نهاية الأمر يصنعون أجيالا لا تؤمن بالوطنية ولا تعيرها اهتماما, تلك التي نريد أن نجري المصالحة علي أساسها, وإنما تؤمن بما تمليه عليها آراء سيد قطب و محمد قطب وغيرهما القائلة بأن مجتمعنا هذا هو مجتمع الجاهلية بكل تقاليده وسماته أو مجتمع العري والرغبة في الكشف عما يجب أن يصان, وتؤمن بشعارات أخري جوفاء لا مدلول لها مثل أستاذية العالم بتعبير البنا أو قيادة العالم بتعبير المودودي فينتفخ الشاب بهذا الفخر الأجوف ويصغر الوطن في نظره ويهمش ويصدق ما وصف به مهدي عاكف مصر من لفظ مستهجن قبيح, ولا يدرك صناع هذه الأفكار أن الانتماء الوطني طبيعي لا يستطيع الفرد الفكاك منه مثله مثل الانتماء الأسري أو العرقي, أما الانتماء الديني فهو اكتسابي اختياري مثله مثل الانتماء السياسي. إن قادة القوي الوطنية تريدها مصالحة أما هذه الجماعات فتريدها مهادنة إلي حين, ولكنهم سوف يحاولون خداعنا مظهرين المصالحة إلي أن تواتيهم فرصة التمكن ويكثر أنصارهم من شباب الأجيال القادمة, فينقضون اتفاق المصالحة في عدوانية لا ترحم وانتقام وحشي ليبيدوا الأخضر واليابس. فإذا كان الخيار هو خيار المصالحة الوطنية فيجب أن تقترن بها بل تسبقها مواجهة تثقيفية جوهرية لا شكلية, وتوعية حقيقية للشباب تتضافر علي تنفيذ برامجها المؤسسات الوطنية التي تتبني ثقافة الوطن التي مزجت بين الأصالة والمعاصرة والتراث والتجديد, ويجب أن يشعر الشباب بذواتهم وحقهم في القيادة, وليقوموا بحمل المسئولية والمشاركة في بناء الوطن ولا بد أن تستنقذ فئات أخري من الشباب نخشي عليهم أن يقعوا فريسة للكيد الخبيث سواء من المتطرفين في الدين أو المغالين في الحداثة أو أصحاب المذاهب الهدامة أو دعوات الشهوات والاباحية أو تجار السموم الفتاكة أو مروجي العنف والبلطجة, فنربيهم علي الاعتدال الخلقي والتفكير العلمي والنقدي, ونرعي الصحة النفسية لأولئك الذين حرموا من التربية المتوازنة, فنجنبهم الانحراف والنظرة الأحادية الضيقة للأمور, ولا ندع للشباب ثغرة من الإحساس بالفراغ النفسي تتسلل منها إليه أفكار المتطرفين من شمال أو يمين, فلنواصل طريقة الاصلاح والتعليم التي بدأها الإمام محمد عبده لتجلية رسالة الاسلام وحكمته وسماحته ثم عرقل سبيلها هؤلاء الخوارج المتطرفون, فمعركة الاجيال القادمة هي معركة العلم والثقافة والمدنية والحرية في مواجهة الجهل والبدائية والفوضي والاستبداد.. وكفانا ما نعقت به في سماء الوطن طيور الظلام. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل