عندما ينهار البيت, ففي نفس اللحظة المختنقة بالغبار والدمار وصرخات الضحايا, ينبغي أن تبزغ الفكرة... فكرة البناء! إلا أنه ما بين الإنهيار والبناء, في تلك المرحلة المفصلية الضبابية ينبغي أن تضاء المصابيح التالية: ضرورة التوصل إلي الأسباب الموضوعية للإنهيار وبشكل علمي, التأكد من الإزالة التامة لأنقاض وبقايا البيت المنهار, عدم إفلات المسئولين من العقاب, حتي يكونوا عبرة لغيرهم, وحتي لو كانت المسئولية تقع جزئيا علي عاتق سكان البيت أنفسهم, دراسة جيدة للتربة وعمل المجسات اللازمة بواسطة مختصين محترفين, ولا تترك المسألة لمقاولي الأنفار أو خبراء التراحيل, وضع التصميم الهندسي المتقن الذي يراعي جميع الظروف ويوفر إختيارا لكل الزوايا بما يحقق أحسن استخدام ممكن للبيت الجديد وتحصينه ضد عوامل الطبيعة والناس, ضرورة أن يشارك أهل البيت منذ اللحظة الأولي في العمليات السابقة, فهم في النهاية من سيعيشون في البيت الجديد, وهم أكثر الناس دراية بإحتياجاتهم وأكثرهم حرصا علي مستقبل البيت الجديد. هذه المقدمة التمثيلية المختزلة هي مجرد إقتراب حذر من موضوع ملتهب, ولعل البعض يتساءل عما يمكن أن يضيفه مقال أو مقالات إلي كل ما قيل وكتب, خاصة في الفترة الأخيرة, حول الثورة المصرية ؟... وقد يدعم هذا التساؤل أن العنوان يحمل إصطلاحا أصبح ممتهنا من كثرة استخدامه والبكاء منه أو عليه, وليس هنا مجال سرد الأدبيات التي تناولت هذا المصطلح الثورة, ولكن لا جدال في وفرتها وتنوعها, ولا جدال أيضا في أن الأحوال لم تتغير مع استمرار عمليات الترميم لبيت لم يعد فيه جدار قائم... يمكن مثلا أن نجد عاملا مشتركا بين أغلب آراء النخبة فيما يتعلق بأهمية فصل الدين عن الدولة لتحقيق أهداف الثورة, ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن خلط المقدس بالمعاش قد أوقع المجتمع المدني العربي في قاع سلم التحضر, وهم في هذا التناول يختلفون حيث يري بعضهم أن هذا الخلط قد أتاح للسلطة إخضاع الشعوب بحجج مختلفة أبرزها بالطبع الهالة التي تبروزت بها فرضية: طاعة ولي الأم, أو ما يمكن إستعارته من ثقافة أخري بفرضية: الحق الإلهي للملوك, ومن ناحية أخري يري البعض الآخر أن هذا الخلط قد عطل المبادرة الفردية من خلال حصار العقل في دوجماتية مقيدة لها هالة مقدسة لا يمكن الفكاك منها. ويستند أصحاب هذا الرأي إلي التجربة الغربية في القياس, فهذه التجربة بدأت أولي مراحل نجاحها وتطورها المذهل إبتداءا من هذه اللحظة تحديدا, حين تفجرت حركة الإصلاح الكبري في معركتها ضد هيمنة الكنيسة الكاثوليكية, والتي تعد حركة كالفن البروتستانتينية أبرز عناصرها, إلا أن مشكلة هذا الرأي الأساسية هي أنه يعتسف فرضيات من إحدي الديانات في مجتمعات أخري, ويسقطها بشكل ميكانيكي علي ديانة أخري, وعلي المجتمع المصري أو العربي. وفي واقع الأمر فإن مجمل حركة التيار الديني في أوروبا الذي كان يهدف إلي إصلاح أو تجديد الكنيسة قد أدي إلي ثورة كاملة علي تلك الكنيسة, والتخلي عن أغلب المبادئ التي أعتنقتها الكنيسة الكاثوليكية, وهو يختلف كثيرا عن حركة التيار الديني في مصر, التي لم تستهدف مؤسسة دينية( الكنيسة), أو تغيير في جوهر الدين وإنما حاولت إيجاد صيغة لتطبيق العقيدة علي ممارسات المجتمع. لكن السؤال هو: هل كان غياب الدين في مصر هو سبب الإنهيار؟, وهل يعد الدين أحد أسس عملية البناء ؟ من نافلة القول أن نذكر أن الدين لم يغب عن مصر منذ فجر التاريخ, وليس هنا مجال إثبات هذه الحقيقة, فلقد أصبح الدين جزءا من جينات المصري يتوارثها جيلا بعد جيل, وبغض النظر عن النظام السياسي القائم, وسواء في فترات الإزدهار أو الانحطاط فإن الدين يظل ملازما للإنسان المصري, إن لم يكن في حركاته وسكناته وأقواله, فمن المؤكد يستقر في ضميره وأفكاره. الثورة إذا لم تقم بغرض إعادة دين غائب, ولم تحمل شعاراتها رمزا دينيا, وإن كان مفهوما أن قيما مثل الحرية والعدالة الإجتماعية هي رصيد مشترك في كل الأديان, كما أن طلائع الثورة الأولي تمثلت في شباب لا ينتمي لأي جماعة دينية, بل بدأت مساهمة الاخوان المسلمين بعد أيام من تفجر الشرارة الأولي, ولحق السلفيون في مرحلة تالية, بينما أكتفي الصوفيون بالمراقبة. وإذا كانت مشاركة التيارات الدينية السياسية في عملية هدم النظام القديم محدودة, فإنه رغم ذلك, يمكن تصور دور مهم للدين في عملية البناء, وهذا يتوقف علي الفهم الصحيح لدور الدين في حياة الأفراد والمجتمع بشكل عام, والتسليم بأن السياسة تعالج أمورا نسبية, فيما يعد الدين مطلقا, وبالتالي فأنه ينبغي الحذر عند خلط المطلق بالنسبي, فكلاهما إذا امتزجا يتفاسدان, إذا صح هذا التعبير, فالدين ضروري للحفاظ علي المخزون القيمي للمجتمع(Setofvalues) مثل الصدق والأمانة والمساواة والعدل وإتقان العمل.. إلخ, وهو دور محفوظ للدعاة والمؤسسات التعليمية, ولكن الدين لا يمكنه ولا يصح الزج به في عمليات المساومة التي هي جوهر السياسة, وبالتالي فإن رئيس الدولة أيا كان إنتماؤه, يقود عملية تفاوض طول الوقت, داخليا وخارجيا, وله في ذلك أن يستخدم أدوات السياسة التي لا تتمتع دائما بالنظافة بالمفهوم الأخلاقي, ومن ضمنها بناء الإئتلافات والتحالفات, واستخدام الخديعة, بل والكذب إذا كان يحمي مصلحة قومية عليا.. وذلك كله مفهوم ومقبول في إطار السياسة, وإن تعارض مع بعض المبادئ الأخلاقية. الدين في المرحلة المقبلة لا ينبغي أن يكون معوقا للإبداع والإبتكار والخلق, أو أن يكون كهنوتا يسيطر عليه طائفة تدعي الحكم بتفويض إلهي, ومن ناحية أخري فأنه ينبغي التسليم بأن الدين يمثل للمجتمع المصري رقما صعبا, وهو جزء من الهوية الوطنية سواء لمعتنقي الإسلام أو المسيحية, بما يفرض إحترام حرية العقيدة كضمان أساسي للمواطنة ووحدة الوطن, وبهذا المفهوم يمكن أن يكون للدين دورا بارزا في عملية البناء. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق