بعد أن خرج الشعب المصري في أضخم مظاهرة عرفتها البشرية, وبعد التضحيات الهائلة بدماء شباب هذه الأمة الوطني, وبعد تجربة مريعة مع حكم استبدادي متخلف. ظل يبرر استبداده وتسلطه باسم دين سمح, أصبح طريق الدولة المدنية الحديثة مفتوحا أمام أبناء هذه الأمة التي عانت من المحن بما لا يليق بتاريخها, وما هو نقيض لكل أحلامها في العيش الكريم والمستقبل الواعد الذي ليس له طريق سريع واعد إلا بإقامة الدولة المدنية الحديثة علي أسس متينة هذه المرة, وبما يؤكد لوازم الحداثة والتحديث علي السواء, ويمضي بنا في الطريق الذي يخلصنا من بقايا الدولة التسلطية التي عانينا منها طويلا, ومنعنا من الاقتراب منها فئة ضالة مضلة, سرقت ثورة الخامس والعشرين من يناير, وعاقت تحقيق مبادئها عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, فضلا عن الاستقلال الوطني الذي يجعل من حرية المواطن الوجه الآخر لحرية الوطن, ويوازي بين الكرامة الإنسانية للفرد والكرامة الإنسانية لمجموع الأمة التي فرضت عليها دول تسلطية متتابعة أن تستبدل بأحلام الاستقلال التام واقع التبعية الذي دفع بمصر الرائدة والقائدة إلي ما لم يكن يليق بمكانتها في التاريخ ولا بعبقرية حضورها في المكان. أما أهم المبادئ التي أراها موصلة إلي الدولة المدنية الحديثة حقا, فهي سبعة. أولها: الديمقراطية التي تعني الحرية بالضرورة. وإذا كانت الحرية تقوم علي صناديق الانتخابات النزيهة, والتعاقد بين الحاكم والمحكوم علي برنامج بعينه, يظل به الحاكم حاكما ما ظل ملتزما بشروط التعاقد, فإن ممارسة الديمقراطية لا تكتمل إلا بدرجة من الوعي تحول بين الناخب والانخداع بما ليس في جوهر الممارسة السياسية, وينصرف بها عن هذا الجوهر المبني علي مصلحة الأمة إلي أنواع من التضليل باسم تأويلات دينية مغلوطة أو تخييلات إيديولوجية قد تؤدي إلي كارثة. ولا معني- كاملا- للديموقراطية في هذا السياق دون حرية الوطن والمواطن علي السواء من ناحية, وما يترتب علي ذلك من تعددية حزبية وقبول بمبدأ انتقال السلطة وتدويرها, ومن ثم حراك النخب السياسية في إطار مبدأ حق الاختلاف. وثاني هذه المبادئ المواطنة التي تقوم علي المساواة بين المواطنين جميعا في الحقوق والواجبات, دون أي شكل من أشكال التمييز الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو العرقي; فالكل في حق المواطنة سواء. والإخلال بمبدأ المواطنة هو إخلال بركن أساسي من مبادئ الدستور والوطنية علي السواء. ولا بد أن يكون العقاب عليه رادعا حتي لا يحدث في الأقطار التي تنبني ثقافاتها التقليدية علي أشكال مختلفة من التمييز الذي نعرفه في المجتمعات والثقافات البطركية. ولا يقل عن مبدأ المواطنة في الأهمية مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يضمن سلامة المجتمع وأمنه الداخليين, ويحقق من أشكال التكافؤ والتكافل ما يحقق الكرامة الإنسانية, ويحول دون وقوع أشكال الظلم الاجتماعي أو مجرد الشعور به. وإذا كانت العدالة الاجتماعية تعني تقريب الفوارق الحادة بين الطبقات, ومن ثم التوزيع المتكافئ للدخل القومي بما لا ينفي المبادرة الفردية في كل مجال, فإنها تعني بالقدر نفسه الحراك الاجتماعي, وتأسيس الحوار المجتمعي علي أسس آمنة وآفاق مفتوحة, قابلة للتجدد. ولن تكتسب هذه الآفاق المفتوحة فاعليتها إلا بالتعليم الحديث الذي لا يقضي علي الأمية فحسب, في مجتمع قاربت نسبة الأمية فيه من تكبيل عقول نصف أبناء المجتمع تقريبا; وإنما يفتح العقول علي آفاق العصر الذي نعيشه, والذي نقع في الذيل المتأخر من قائمة تخلفه, ويحصن هذه العقول بالفكر النقدي الذي يدفعها إلي ألا تأخذ الأفكار والآراء مأخذ التسليم والتصديق الساذجين, وإنما تضعها موضع المساءلة, كاشفة عن وجه الزيف في كثير مما هو سائد وشائع وما استقر في العقول أو تكلس فيها وبها. ويعني ذلك التحديث الجذري الذي يصل إلي حد تثوير خطط التعليم واستراتيجياته, والإفادة من تجارب الأمم المتقدمة فيه, وعدم البخل ماليا علي ما يستلزمه التحديث الجذري للتعليم من ميزانيات أو خبرات; فالتعليم هو الأساس المكين الذي تترتب عليه أشكال الوعي وطرائق التثقيف. ويبقي بعد ذلك, وفي أثناء ذلك, تحديث أجهزة الدولة بما يضمن فاعليتها وسلامة أدائها وكفاءة عملها علي كل مستوي. ويبدأ ذلك من التمييز الحاسم بين السلطات الثلاث لهذه الدولة, وعدم اعتداء سلطة منها علي غيرها, ولا نزال نحتفظ بذكريات حزينة من هذا الاعتداء, ممثلا في مذبحة القضاة الناصرية, وتحريف مواد الدستور لصالح بقاء الحاكم في الزمن الساداتي, والبصمة السوداء لترزية القانون لصالح التوريث في زمن مبارك, واعتداء السلطة التنفيذية علي القضاء والقانون والدستور في زمن مرسي والإخوان. وكلها أشكال من الفساد تحرم الدولة من صفاتها المدنية والحديثة علي السواء. وزاد الطين بلة الكارثة التي أورثنا إياها حكم السادات, وهي إقحام السياسة في الدين وإقحام الدين في السياسة. وهي الكارثة التي أشاعها حكم الإخوان الذين خلطوا الدين بالسياسة, وتناسوا وعد الدولة المدنية الذي استهل به مرسي عهده, ولم يتوقف عن ممارسة جرم الأخونة الذي كان يعني تديين كل شيء, حتي ما هو من أمور دنيانا الخالصة, واستعادة وهم الخلافة الذي هو عودة بالتاريخ إلي حقب استبدادية لا حد لبطشها. وكانت نتيجة ما فعلوه الكارثة الكبري التي قسمت الوطن إلي أقسام محتقنة أو متصارعة. فجعلوا المسلم الذي زادوه تعصبا لا يكف عن ممارسة التمييز القمعي ضد أخيه المصري المسيحي في المواطنة, الذي شعر بالغربة والاضطهاد في وطنه لأول مرة منذ ثورة.1919 ولم يكتفوا بذلك وحده, وإنما أضافوا إليه التمييز من بعض المسلمين ضد غيرهم, فأصبح الإخواني أعلي رتبة من غير الإخواني, والمسلم السني لا يتردد في قتل أخيه الشيعي. ولا تزال لحكمهم الكارثي آثار سوف تستغرق زمنا حتي تزول, وثمنا مريرا لابد لنا جميعا من دفعه كي نتيقن كل اليقين أنه لا مستقبل لهذه الأمة إلا إذا عادت لوحدتها التي كانت عليها عندما أسقطت مبارك, وهتف أبناؤها في التحرير: مدنية..مدنية والحمد لله انتهي الكابوس, ونبدأ طريق الدولة المدنية الحديثة. فلنعض عليها بالنواجذ, وندفعها بكل ما نستطيع في الاتجاه الصحيح. وأدعو الله أن نمضي قدما دون أخطاء, وإلا... لمزيد من مقالات جابر عصفور