في خضم الموجة العاتية من انحسار الأخلاق الإسلامية, يبرز الكذب كأحد أضداد خلق المسلم, وهو محظور في جملته, وضده( وهو الصدق) واجب شرعا علي كل مسلم أن يتصف به, ويتحراه في كل ما يعرض له في حياته, إذ أمر الشارع به فقال سبحانه:( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين), كما نهي عن التخلق بالكذب, فروي عن ابن مسعود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: عليكم بالصدق; فإن الصدق يهدي إلي البر, والبر يهدي إلي الجنة, وما يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتي يكتب عند الله صديقا, وإياكم والكذب; فإن الكذب يهدي إلي الفجور, والفجور يهدي إلي النار, وما يزال الرجل يكذب ويتحري الكذب حتي يكتب عند الله كذابا... إلي غير ذلك من نصوص تأمر المسلم بالتحلي بالصدق, وتنهاه عن التخلق بضده. وقد قسم العلماء الكذب إلي خمسة أقسام تبعا للأحوال الداعية إليه, فيحرم في قسمين, ويشرع في أقسام ثلاثة: القسم الأول: الكذب الذي لا يتعلق فيه حق لمخلوق, وهو الكذب فيما لا مضرة فيه علي أحد, ولا يقصد به وجه من وجوه الخير كالإخبار عن حدوث شيء لم يحدث أصلا, وهذا القسم محرم باتفاق العلماء, وهو الذي جاء فيه عن النبي صلي الله عليه وسلم: إن المؤمن لا يكون كذابا, أي لا يكون مؤمنا ممدوح الإيمان, وهو الذي يغلب عليه الكذب حتي يعرف به, وتتحقق توبة من يتصف بهذا الكذب بالإقلاع عنه, والاستغفار منه. القسم الثاني: الكذب الذي يتعلق به حق لمخلوق, وهو أن يكذب المرء علي غيره فينسب إليه أنه فعل ما لم يفعل, أو قال ما لم يقل مما يؤذيه, أو يغض منه, وهذا القسم أشد من سابقه; لأن التوبة منه لا تصح إلا إذا تحلل الكاذب من المكذوب عليه, فأحله هذا عن طيب نفس منه, أو أخذ حقه منه إن تعين له حق بهذا الكذب. القسم الثالث: الكذب الذي يقصد به وجه من وجوه الخير للمسلمين كالكذب في الحرب; لتضليل أعداء الإسلام والمسلمين, إذ الحرب خدعة, كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم وهذا النوع من الكذب مستحب. القسم الرابع: الكذب الذي يرجو به المرء نفع نفسه ولا ضرر فيه علي غيره, ككذب الرجل لامرأته فيما يعدها به; ليصلحها إن كانت غضبي, فهذا الكذب أباحته السنة إذ روي عن صفوان بن سليم أن رجلا قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم: أكذب امرأتي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا خير في الكذب, فقال الرجل: يا رسول الله أعدها وأقول لها, فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا جناح عليك ويدل لجواز التصريح بالكذب في هذه الحالة قوله تعالي حكاية عن إبراهيم عليه السلام:( بل فعله كبيرهم هذا...), وقوله سبحانه في قصة يوسف عليه السلام: فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل في رحاب رمضان أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون)( إلخ.. الآيات من7076 من سورة يوسف). القسم الخامس: كذب الرجل في رفع مظلمة عن أحد كأن يختفي عنده مظلوم ممن يريد قتله, أو إلحاق الضرر به ظلما, فيسأل عنه, فيقول: لا أعلم له مستقرا, وهذا النوع من الكذب واجب لما فيه من حقن الدماء, ورد الظلم عن المظلومين, وكلاهما أمر واجب, وإذا تعين الكذب وسيلة إلي ذلك فإنه يكون واجبا; لأن للوسائل حكم غاياتها, فالحالات التي يشرع فيها الكذب حالات نادرة, قليلة الحدوث, وأما ما عداها فهو كثير نسبيا, إلا أنه لا يباح فيه الكذب بحاله.