أشرت في مقالات ودراسات سابقة إلي أن الإختلال في علاقات القوي بين الأحزاب السياسية في مصر يشكل عقبة كبري أمام استكمال عملية التحول الديمقراطي. وأنه في غياب قيادة سياسية متبلورة لقوي الثورة في25 يناير تولي المجلس العسكري السلطة ساعد علي ذلك غياب قوي سياسية جماهيرية قادرة علي تعبئة الجماهير بما يمكنها من حسم مسألة السلطة لصالح المنافسة السلمية الديمقراطية كأساس لتداول السلطة من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة. ولأن الساحة كانت خالية في ذلك الوقت من أحزاب وقوي سياسية ذات جذور جماهيرية فإن الجماعة السياسية الأكبر في هذا الوقت وهي جماعة الإخوان المسلمين نجحت في إقتناص الفرصة وتوافقت مع المجلس العسكري علي إجراء تعديلات دستورية فرضت أن تكون الإنتخابات البرلمانية قبل وضع الدستور لتقديرها أن فوزها بالأغلبية أو الأكثرية في هذه الانتخابات سيمكنها من تشكيل لجنة إعداد الدستور علي النحو الذي يؤدي إلي إصدار دستور يحقق لها رؤيتها في نظام الحكم والقواعد التي تحكم علاقة السلطة بالمواطنين. وهو ما حدث فعلا حيث صدر دستور يقيم نظام حكم أقرب إلي دولة ولاية الفقيه يمنح هيئة كبار العلماء حق تفسير المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية, وتقرر مدي توافق مشروعات القوانين مع هذه المبادئ, رغم أن كل الدول الديمقراطية تقوم دساتيرها علي أن المحكمة العليا هي التي تفسر نصوص الدستور. وقد تحقق للإخوان المسلمين ما أرادوا في غيبة حياة حزبية ناضجة وغياب منافسة متكافئة مع القوي السياسية الأخري, وتمكنت الجماعة السياسية الأكبر حجما والأكثر خبرة والأوفر مالا من فرض إرادتها داخل السلطة التشريعية وتولي رئاسة الجمهورية والتواجد في الحكومة ومن ثم القدرة علي زرع أعضائها في المواقع القيادية الحساسة بأجهزة الدولة, دون أن تعطي أي إعتبار للقوي السياسية الأخري لأنها ليست بالقدر الكافي من القوة لمواجهتها في الشارع أو في صناديق الإنتخاب. وكانت العبارة الأثيرة عندهم واجهونا في صناديق الإنتخاب. ودخلت البلاد أزمة عميقة نتيجة لهذا الوضع الذي قام علي جماعة سياسية تحتكر السلطة وتنفرد بإصدار القوانين وترسم السياسات العامة علي النحو الذي يتوافق مع أيديولوجيتها ولم تكن للقوي الأخري القدرة علي تجاوز الأزمة, إلي أن طرح شباب تمرد فكرتهم العبقرية بتوقيع المواطنين علي طلب سحب الثقة من رئيس الجمهورية وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة, وقد قوبلت هذه المبادرة الشبابية باستخفاف في البداية إلي أن تأكد للجميع أن الشعب المصري لم يعد يقبل استمرار هذا الوضع السياسي الذي يتعارض مع مصالحه ومصالح الوطن, واحتدمت المواجهة بين شباب تمرد والأحزاب السياسية المؤيدة للمبادرة وبين الجماعة وحلفائها. ومع اقتراب موعد خروج الجماهير إلي الميادين للتأكيد علي هذا المطلب يوم30 يونيو, كانت ملامح أزمة حادة تبدو واضحة, ولم تكن هناك قوة علي أرض الواقع قادرة علي حسم هذه المواجهة لصالح الشعب, رغم أن الشعب خرج بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية يعبر فيها عن رأيه الصريح بمطالبة رئيس الجمهورية النزول علي إرادة الشعب والقبول بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة والاحتكام إلي صندوق الانتخاب الذي طالما تشدق به الإخوان وحلفاؤهم. هكذا كان إخراج البلاد من هذه المواجهة الحادة التي تهددها يحتاج إلي تدخل طرف يملك القوة الكافية لحسم المواجهة, وهذا الطرف في حالتنا هو القوات المسلحة, وهكذا عادت القوات المسلحة مرة أخري خلال ما يزيد قليلا علي عامين إلي الساحة السياسية, وصدر بيان القوات المسلحة ببدء مرحلة انتقالية تؤدي إلي انتخابات رئاسية مبكرة خلال فترة تتراوح بين ستة أو تسعة أشهر يتم خلالها تعديل الدستور وإجراء مصالحة وطنية. ومن الواضح أن غياب قوي سياسية جماهيرية قادرة علي المنافسة المتكافئة مع الجماعة الأكبر وهي الإخوان المسلمين هو الذي أدي إلي تدخل القوات المسلحة, بما أثاره من مواقف دول كبري وقوي إقليمية تعتبر ما حدث إنقلابا عسكريا, رغم أن الجيش لم يتول الحكم وأن السلطة السياسية يديرها رئيس مؤقت هو رئيس المحكمة الدستورية العليا وإلي جواره حكومة من شخصيات مدنية يحكمهم إعلان دستوري, ومع تراجع رد الفعل الخارجي باعتبار ما حدث إنقلابا عسكريا, وتراجع مقاومة الإخوان المسلمين لهذا التطور مع استمرار عدم إعترافهم بشرعية هذا الإجراء, وتهديدهم باستمرار المواجهة واللجوء إلي العنف واستدعاء التدخل الخارجي بحجة الدفاع عن الشرعية, إلا أن الشرعية الشعبية كانت السند الأساسي للإجراء الذي اتخذته القوات المسلحة استجابة لموقف ملايين المصريين. لكن هذا التطور لصالح التغيير في مصر ولصالح استكمال عملية التحول الديمقراطي, لا يغير من الحقيقة شيئا, فغياب القوي السياسية والأحزاب السياسية الجماهيرية الليبرالية والإشتراكية والقومية سيؤدي إن آجلا أو عاجلا إلي تدخل القوات المسلحة مرة ثالثة إذا نشأت أزمة جديدة ولن يتغير هذا الوضع, ما لم تنجح الأحزاب السياسية في بناء نفسها كقوي جماهيرية قادرة علي إدارة العملية السياسية إستنادا إلي حركة جماهيرية منظمة تفرض علي الجميع إحترام قواعد اللعبة السياسية كما تمت صياغتها في الدستور, وامتلاك القدرة الفعلية علي المنافسة المتكافئة في الانتخابات البرلمانية, وتداول السلطة فعلا من خلال هذه الانتخابات. وبذلك تعود القوات المسلحة لتصبح إحدي مؤسسات الدولة التي تقوم بالدور المحدد لها في الدستور وهو الدفاع عن الأمن القومي وعن حدود البلاد ضد أي عدوان خارجي.نعم بدون القدرة علي بناء أحزاب سياسية جماهيرية سنظل في هذه الثنائية بين التطور السياسي والتدخل العسكري. وللخروج من هذه الثنائية تأتي أهمية بناء الأحزاب الجماهيرية. لمزيد من مقالات عبدالغفار شكر