تقاس حضارة الأمم وتقدمها بمدى تعمق القيم الأخلاقية بها، ومدى احترامها لهذه القيم، والحرص والعمل على تنمية هذه القيم وغرسها في الناس كي يلتزموا بها، لأنها صمام أمان يحفظ الأمة من التفرق والتشرذم. إن الناس مهما اختلفوا فلا أن هناك قسطًا وافرًا من الحقائق يتفق عليه العقلاء بصرف النظر عن انتماءاتهم وأيدلوجياتهم، ولا بد من العمل في هذه المساحة كي تكون عاملا مشتركا بين الكل؛ تحقيقا لوحدة الصف ولما للشمل. وفي الفترة الأخيرة تراجع مؤشر القيم، ورأينا الحوارات تدور بشكل مستفز وبلغة هابطة وبانفعال يطمس الحقيقة ويعبد المتحاورين عن إدراكها؛ فلا بد إذن من العمل على التخلص من هذه الصفات المزرية والالتزام بالتهذيب قدر المستطاع، نعم لكل إنسان أخطاء لكن ينبغي لهذه الأخطاء أن تقل، وينبغي أن تكون محدودة ساعة الانفعال وفلتان الأعصاب، أما أن يكون حالنا كله هكذا فلن نحل مشكلة ولن نسعى في تقدم بلادنا، ولا بد أن نترك التخوين ونطرحه جانبًا ويحترم كل منا الآخر بدلاً من العداوة والهجوم. وفي هذه الأيام ما أحوجنا إلى تحقيق وفاق وطني بين طبقات الشعب جميعها؛ من أجل أن تسير الأمور وتنطلق عجلة الإنتاج وتعمل مصانعنا ومدارسنا وتسير طرقاتنا، إن عدم الوفاق سببه الانحراف عن الصواب، فما هو الصواب الذي إذا التزمناه نجانا الله تعالى من الشقاق والفرقة والشتات؟ خاطبنا ربنا جل وعلا قائلاً: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، فما أحوجنا حقًّا إلى تلبية هذا النداء ألا وهو التمسك بحبل الذي قيل هو القرآن وقيل هو شرع الله؛ فإن المؤتمرات والندوات تُعقد الآن لجمع الكلمة ونبذ الخلاف بين الفرقاء، وهذا شيء طيب دعا إليه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون عليه، ولكن ما هي الوسيلة التي تحققه.. إنها الوسيلة الوحيدة التي نص الله تعالى عليها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). فدلت الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف على أنه سيكون هناك اختلاف بين الأمة، وأن هذا الاختلاف لا يحسم إلا بأمور ثلاثة: الأول: اجتماع الكلمة تحت طاعة ولي أمر المسلمين وعدم الخروج عليه إلا إذا ارتكب كفراً بواحاً عندنا عليه من الله سلطان أي حجة قاطعة. الثاني:أن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله، فما شهد له الكتاب والسنة من الأقوال والآراء فهو الحق الذي يجب اتباعه، وما خالف الكتاب والسنة من الأقوال والآراء فهو الباطل الذي يجب نبذه وتجنبه. الثالث: أن نعمل بالسنة؛ لأنها هداية ونترك البدع لأنها ضلالة. الرابع: ما لم تتبين مخالفته ولا موافقته من الآراء الفقهية الاجتهادية فلنا معه حالات: الأولى: أن يأخذ به ولي أمر المسلمين ويفتي به العلماء المعتبرون، فإنه يؤخذ به؛ لأن القاعدة: إن حكم الحكام يرفع الخلاف ولأن جمع الكلمة مطلوب. الثانية: إذا لم يؤخذ به من قبل ولي الأمر وأهل الفتوى أن نتوقف فيه عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام". وقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". ولا بد من سعة الصدر وعدم التشكيك في القائمين على أمور البلاد. إن الواجب على هذه الندوات والمؤتمرات التي تعقد لجمع كلمة المسلمين أن تبحث عن سبب الاختلاف فتزيله؛ لأنه إذا زال السبب زال المُسَبَّب، خاصة أن كثيرًا من هؤلاء الفرقاء ينادون بأنهم مسلمون وأنهم يحترمون الشريعة فهلا احترمنا في خلافاتنا هذه الشريعة والتزمنا قيمها السامية؟!. لمزيد من مقالات جمال عبد الناصر