كان مشهدا جديدا لم نعهده من قبل وإن تجلي بروعته في كل الميادين والتحرير في ثورة25 يناير, هذه المرة مضت المواكب الثورية علي سجيتها في الشوارع الخلفية والجانبية والمنعطفات لتنحدر كالسيل الذي لا يجد لنفسه طريقا مرسوما .. سوي بلوغ غاية المني.. همم متحفزة آمنت بأن الحياة ليست معتركا بين المرء والآخرين ولكن المعترك الحقيقي يكون بين المرء ونفسه.. بين قدرته علي الإقدام والنكوص.. بين العزيمة وضعفها.. بين الشجاعة والتخاذل.. فالحياة ساحة اختبار للعزائم وإلا كنا كخشاش الأرض ترزق وتعيش علي أهون سبيل.. خرجت الجماهير بعفوية مدفوعة بثبات القلب وحرارة اليقين تدافع عن حريتها التي تعدها صنوانا لحياتها.. خرج شعب مصر من كل الربوع دون ساسة أو قادة رأي فبعضهم للأسف الشديد لم يسهم في زيادة الوعي ولكنهم عملوا علي تدعيم الفراغ السياسي بدلا من التخلص منه.. طبيعة هذا الشعب مفطورة علي المسالمة والانتماء إلي اللون الأخضر.. لون النماء الذي يمد أبناءه بشعاع دفين يستيقظ وقت الأزمات ليبصره ويعلمه كيف يجابه الاستبداد ويقول: كلمة حق وصرخة في واد إذا ذهبت اليوم مع الريح ستذهب غدا بالأوتاد علي حد تعبير الكواكبي.. من شجرة هذه الروح الشعبية التي تظلل شوارع مصر وتمتد ظلالها في وجدان الأبناء, استمد سيد درويش أغنيته الخالدة: قوم يا مصري من قبس هذه الروح العظيمة الكامنة في النفوس تجددت الهتافات في30 يونيو2013 مشحونة بالمعاني والتلقائية من القلوب لا من الحناجر.. هتافات ينسجم فيها اللفظ مع المعني: انزل يا سيسي.. مرسي مش رئيسي.. هتافات خرجت من شوارع وأزقة ونجوع وكفور شعب نبض عروقه كبرياء.. لم تعجزه أو تطمس بصيرته فتنة عمياء صماء بكماء.. شعب استجار بقواته المسلحة التي اعتادت أن يتقدم فيها القائد جنوده في عظمة دون صلف ورحمة من غير ضعف, وعلم دون زهو, وارادة دون تجبر.. هذا هو جيش مصر الذي لم يتدثر إلا ثياب الوطنية التي تصنع دوما من نسيج لا يبلي ولا يمكن تقليده.. لم تفلح خطابات التحريض في النيل من روح هذا الشعب لأنه اعتاد أن يتعلم من عثراته وأخطائه فقد تعرض لمآس موجعة وسقط خيرة أبنائه شهداء بررة فداء لهذا الوطن, لكنه لم يقبل أبدا أن يلبس الحق ثوب الباطل مهما عبر من محن يقينا منه أن في حياة الأمم رجالا تظهر عظمتهم وقت الأزمات.. خرجت جموع مصر في أكبر مظاهرة شعبية في تاريخ البشرية فكانت ثورة كرامة وتمرد نبلاء يأبون الخضوع لكل سلطان باغ.. خرجت مصر غاضبة تسمع صوتها لكل العالم وهي ترفض في إباء من أراد أن يهوي بها إلي الحضيض.. خرجت مصر لترد علي من توجه إليها بخطبه المحبطة وهي تستلهم البيت الشعري الذي أنشده أمير الشعراء أحمد شوقي بمناسبة خطبة رياض باشا في وداع اللورد كرومر ومغادرته لمصر: خطبت فكنت خطبا لا خطيباأضيف إلي مصائبنا الجسام خرجت مصر لتقول كلمتها دون وصاية فكانت, دعوة للخروج من سجن الأثرة إلي رحاب المحبة والقواسم المشتركة لأنها اعتادت ألا تفرق في محبتها بين أبنائها شأن أي أم رءوم.. مرت مصر بأحداث جسام لكنها حتما ستجليها وتطهرها وتزكيها ولن تتركها إلا وقد أصبحت أراضيها واحة تتسع للجميع.. خرجت الجموع البشرية هادرة تعلو وتزأر إذا اعترضتها سدود.. ولكن لم يغض ماؤها أبدا لأنه من نبع هذه الأرض.. أمواج بشرية ستظل تعلو حتي تتفتح لها دوما في السدود ثغور.. وهو ما حدث والحمد لله فالثورة الشعبية أسقطت النظام.