قضيت يوما وبضع ساعات في رحلة إلي محافظة الأقصر. وصلت عاصمة المحافظة مساء الثلاثاء وعدت صباح الخميس. كان يوم العمل هو يوم الأربعاء. وكان العمل في قرية صعيدية أقصرية زرتها للعمل عدة مرات قبل هذه الزيارة الأخيرة. كانت المرة الأولي عندما قام المجلس القومي للمرأة عام2005, علي ما أتذكر, بتقديم قروض صغيرة للنساء المعيلات ليبدأن مشاريع صغيرة منتجة. ونجح المشروع ولاتزال دورة القروض مستمرة. ثم تكررت الزيارات إلي أن دعاني مكتب منظمة الأممالمتحدة للمرأة لزيارة ذات القرية في العام الماضي للبدء في امكانية تأسيس جمعية تعاونية زراعية تقوم علي مساهمة النساء فقط وعلي جهدهن وبإدارتهن. وبعد عام من عمل وجهد العقول والسواعد المصرية سافرت يوم18 يونيو الماضي لحضور افتتاح أول جمعية تعاونية زراعية إنتاجية مشهرة تؤسسها وتديرها نساء ريفيات. والاضافة إلي هذا العمل أن هذه الجمعية في الصعيد البعيد, في الأقصر وفي قرية الطود التي عرفتها قديما قرية وباتت الآن مدينة وعاصمة لمركز. فالجمعية ملك لريفيات صعيديات واسمها جمعية سيدات الأقصر التعاونية لتسمين الماشية. بعد الافتتاح انتقلنا إلي مشروع زراعي آخر يهدف إلي رفع قيمة الصناعات البستانية في صعيد مصر حيث تتراجع التنمية وحيث يتواجد العدد الأكبر من الفقراء والفقيرات. في هذا المشروع بالذات تعلم المزارعون والمزارعات طرق وفنون ادخال زراعات بستانية جديدة وفرزها ثم تعبئتها ثم تسويقها محليا. واحتاج التسويق المحلي إلي التصنيع الجزئي قبل التعبئة فتأسست محطة للتعبئة تقوم علي جهد الريفيات من مركز الطود وتوابعه.ومن خلال عمليات ما بعد الحصاد تتحقق الزيادة في قيمة المنتج الزراعي فيحقق المزارع دخلا أكبر وتتسع فرص العمل في القرية.. عندما نعرض التجربتين فإننا نعرض نموذجين للتكرار في قري أخري وليس للتفاخر والزيارة. نقدم نموذجين لأسلوب عمل جماعي بين منظمة الأممالمتحدة للمرأة وبين منظمة ممولة من الحكومة الأسبانية تعمل لرفع قيمة الصناعات البستانية في صعيد مصر ومعروفة اختصارا ب سلاسل وثالثة تملك التمويل هي منظمة مصر الخير. بني التعاون علي رؤية واضحة وسياسة مبنيتين علي دراسة الواقع الصعيدي وحال المرأة الريفية فيه. فالإحصائيات الخارجة من الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء تشير إلي أن البطالة في صفوف المرأة ترتفع إلي نسبة40% في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة الأسر المصرية التي تعيلها نساء إلي ما بين خمس الأسر وربعها وأن المرأة المعيلة فقيرة ويتمركز أكبر أعدادها في صعيد مصر. في الوقت الذي تتبني الحركة النسوية ومعها المجلس القومي للمرأة فكرة أن تمكين المرأة يعني مساعدتها علي مواجهة صعوبات الحياة. من هذا المنطلق يمكن فهم التجربتين بكل الجهد الانساني الذي بذل لقيامهما, بدءا من اختيار الريفيات المؤسسات للتجربة ومناقشتهن المطولة حول رغباتهن واختياراتهن( هل يردن تسمين خراف أم عجول أم تربية دواجن) ثم تعليمهن وتدريبهن علي مختلف الخطوات العملية الانتاجية وعلي العمل الاداري وعلي العمل الجماعي.وكان الهدف الأساسي هو حصول النساء علي فرص حياة أفضل ثم حصول المجتمع علي قيمة مضافة لاقتصاده. والمناسبة غير المقصودة التي تمت فيها تلك الزيارة والافتتاح في محافظة الأقصر في الأيام الثلاثة هذه عندما كانت الأحداث تتفاعل في المحافظة حول تعيين محافظ جديد ينتمي للجماعة الاسلامية بعد محافظ سابق كان دبلوماسيا هو السفير عزت سعد وكان راعيا متفهما للتجربتين معا, بجانب تجارب زراعية أخري, وكان البرنامج معدا ليقوم المحافظ السفير بافتتاح الجمعية التعاونية. وكان من رأيه أن الأقصر تحتاج إلي تنشيط الاقتصاد الزراعي ليستوعب يدا عاملة ويحقق دخلا بحيث لا تعيش كل الأسر معتمدة علي السياحة ودخولها المعرضة للأزمات. وفي وقت الزيارة نفسه كانت المناقشات تتفاعل حول يوم30 يونيو الشهير, الذي هو اليوم. ومحافظة الأقصر محافظة جديدة خرجت من رحم محافظة قنا. وتبدو وكأنها أصغر المحافظات مساحة وتعدادا سكانيا وحيازة للأرض. ولكن الأصغر في المساحة والحيازة الزراعية والسكان لا يكون دائما الأقل تأثيرا. في أحيان, كالحالة الأقصرية, يكون الأصغر هو الأكبر تأثيرا. وإن كانت المناسبة السياسية بسبب توقيتها الزمني المصاحب لتغيير المحافظين غير مقصودة إلا أن المناسبة الأقصرية الاقتصادية كانت مقصودة. فالأقصر تكون غنية جدا في حالات الرخاء السياحي ولكنها تتعرض إلي حالات الحاجة الصعبة في زمن التراجع السياحي. خاصة إذا امتد التراجع لفترات طويلة كما هو الحال الآن. في حالات الرخاء السياحي تجد الابتسامة علي كل الوجوه السمراء. وفي حالات التراجع تختفي الابتسامات فيختفي ملمح أساسي من ملامح الأقصرية, نساء ورجالا. لا تملك الأقصر إلا اقتصادا سياحيا قويا, في أوقات الرخاء, ثم اقتصادا تجاريا وخدميا يرتبط في غالبيته بالسياحة بالإضافة إلي حيازة زراعية لا تزيد علي130 ألف فدان تقع بين النهر والجبل من اليمين ومن اليسار.ومنذ القديم تمتد حقول قصب السكر علي نصف مساحة الحيازة الزراعية بمعني أن زراعات القصب تأكل65 ألف فدان تروي كلها بالغمر. في إطار هذا الواقع الاقتصادي وفي اطار ما تمر به مصر من أزمات مائية قد تزداد, مع التغيير المناخي الحادث الآن, تجد الأقصر, كحالة صعيدية, أمام خيارات محدودة يتحدد نصفها بتنشيط السياحة ويرتبط النصف الآخر بإحداث تغير جذري حقيقي في نظام الزراعة المصرية. في هذا الجزء الأخير تتشارك محافظة الأقصر مع باقي المحافظات الزراعية المصرية. فتنظيم الزراعة المصرية الحالي يحتاج إلي اعادة هيكلة لمعالجة التفتت الحيازي والتركيب المحصولي ونظام الري وعلاقة المزارع بفنون الزراعة وسبل تطورها. نحتاج إلي إعادة النظر في مجمل العملية الزراعية. توجد الدراسات وتوجد العقول كما توجد السواعد ولكن لا تزال الرؤية غائبة وتائهة مع سيادة أفكار التمكين الحزبي واختيار ذوي الثقة وتحقيق التوازنات السياسية علي حساب الانتاج ولقمة العيش. لذا كان اختيار الأقصر للتجربتين سليما. تحتاج الأقصر دائما إلي قيادة إدارية تفهم التوجهين معا, كيف تنشط السياحة وكيف تعيد هيكلة الزراعة وكسب المزارع والمزارعة لنظم الزراعة الحديثة والمتنوعة. وفي الواقع هذه ليست احتياجات الأقصر وحدها وإنما احتياجات كل محافظات مصر ولكن نناقشها بمناسبة الزيارة. ونعود لنكرر أن تأسيس جمعية تعاونية انتاجية لتسمين الماشية بعضوية نسائية فقط هو نموذج لتعاون دولي مصري, ونريده أن ينتشر في كل القري ويصبح حركة تعاونية مصرية تمتد من الجنوب إلي الشمال ومن الشمال إلي الجنوب. وقد باتت ضرورة الآن ونحن نواجه أزمة مياه وفجوة في سلة الغذاء. لمزيد من مقالات أمينة شفيق