عام1979 الفنان بهجمت عثمان وانا في الكويت.. كلانا في ضيافة وطن عربي ثان, بعد ان طردنا وطننا الأول, لان ديكتاتورا صغير الشأن قرر ان يحكم مصر بالقانون المفصل علي قد مصالحه وبالاحاديث الصحفية عبر الاقمار الصناعية, وبالاستراحات المنتشرة من اسوان حتي وادي الراحة كان الديكتاتور الصغير قد أفلح في اقناع نفسه أنه عظيم وسط جموع من الاقزام. وكان قد حصل علي تفويض بأن يحكم بما شاء كيفما شاء ووجد من يهتف له بالقصيدة والمقالة والاغنية والاستعراض: احكم يا خير من حكم! وكنا بهجت عثمان وانا الي جوار عشرات من الكتاب والمفكرين والفنانين والمثقفين. قد قررنا ان نكفر بالديكتاتور الصغير الشأن وجدناه هزأة في ثياب فضفاضة لم تخدعنا بلاغته المفتعلة ولا ترانيمه المسمومة في حب مصر, عن حقيقة الدور الذي كان يلعبه في حياة بلادنا خاصة ومقدرات الوطن العربي باكمله ومن ثم قلنا: لا له ولحكمه علي حد سواء, ووجدنا نفسينا في ضيافة الوطن الصغير الكبير, كويت السبعينيات الزاخر بالآراء الحرة, حيث تلاقي اعداد ممن يستطيعون ان يخدموا وطنا عربيا متطلعا الي التقدم بعد ان حيل بينهم وبين خدمة الوطن الأول. وتصادف ان اعدت قراءة مسرحية عميد الدراما الأمريكية: يوجين اونيل المسماة: الامبراطور جونز فلفت نظري كيف استطاع اونيل ان يصور احوال حكام العالم الثالث من الدول حديثة الاستقلال, في المسرحية زنجي افاق, وقاتل, وهارب من السجن, استطاع ان يصل الي احد البلدان الافريقية, حيث ساعده تاجر بريطاني خرب الذمة علي ان يصبح امبراطورا لقاء ان يسهل للتاجر صفقات كثيرة مشبوهة. اما الامبراطور فكان قد رتب اموره علي نحو يكفل له النجاة من قبضة شعبه, اذا ما ثار عليه هذا الشعب يوما ما: وضع الاموال التي نهبها في احد المصارف الاجنبية, وخطط كي يستقيل في الوقت المناسب, ويذهب الي احد الموانئ حيث تنقله سفينة فرنسية إلي مكان امن, يقبض فيه امواله ويعيش ناعم البال. ويصف اونيل الامبراطور الدعي بقوله: يدخل الامبراطور في لباس العجب, يدخل متبخرا في سترة زرقاء خفيفة الزرقة تنتشر فيها الازرار النحاسية الصفراء وتزين الكتفين والياقة والكمين منها الياف مذهبة, اما سرواله فأحمر قاني الحمرة يشقه علي الجانب من الفخذين شريط رفيع خفيف الزرقة هو الاخر ويتم الهندام حذاء يتدلي منه مسدس طويل مرصع اليد باللؤلؤ. قرأ الفنان بهجت ما كتبته عن المسرحية في مجلسة العربي ولفت نظره ما لفت نظري من شبه عائلي بين هذا الامبراطور المزيف وبين حكام العالم الثالث في افريقيا خاصة, فرسم صورة للامبراطور تصور عجبه وتفاهته, سترته العسكرية محلاة بأغطية زجاجات المشروبات الغازية علي شكل اوسمة وعلامة الموت تحلي قبعته والمسدس يتدلي من حزامه العريض. رسم بهجت الصورة واحسب انه قد اخذ يترسب من لاواعيته منذ ذلك التاريخ( ديسمبر1979) ضرورة ان يعبر عن سخافات حكام العالم الثالث وجرائم بعضهم بريشته الساحرة الساخرة في سلسلة من الرسوم الكاريكاتيرية. ومن ثم ابتكر شخصية بهجاتوس ووضع فيها شيئا من ملامحه هو حتي يدرا عن نفسه بعض الحرج ثم جعل يحرك هذه الشخصية في مواقف كثيرة مألوفة من حكام العالم الثالث: بهجاتوس هو رئيس بهجاتيا العظمي عملته تنخفض بانخفاض الدولار ولاترتفع بارتفاعه وعلي بهجاتيا العظمي يصور يدين علي واحدة منهما علامة الدولار وتخرج الثانية من كم سترة مهترئ. اما توقيع الزعيم المعلم فهو بصمة وبطاقة استفتاءاته تحمل كلمات: نعم نعمين نعمات ومقولاته العظيمة تفيض بالحكمة: اغسل يديك قبل الاكل وبعده وفي حالات الانقلاب والانتفاضة وثورة التصحيح تظل هناك صورة واحدة لاتتغير هي صورة الزعيم الكبير بهجاتوس الموت لمعارضيه والاوسمة والسيارات الفاخرة ومظاهر التكريم لكل من يشيد بحكمته وعدله وديمقراطيته في استقباله لشعبه: الشعب يلعق الارض بين قدميه وفي استقباله لسفراء الدول الاجنبية يقبل بهجاتوس العظيم الارض بين اقدامهم ليس له الا صديق واحد هو حليفه الاجنبي وهو القارئ الاول والمعلم الاول والعامل الاول واسرته عريقة النسب جده قاطع طريق وابوه لص وهو يستهل عمل اليوم بالسحل والفرم ثم يدخل قصره للسهر علي مصالح شعبه مصطحبا زجاجات الخمر. هذه بعض سمات بهجاتوس العظيم تقطير وتركين لمساؤي الحكام في كثير من دول العالم الثالث حيث الديمقراطية كلمة تقال والقانون هو شريعة الغاب والحرية اسمها الطوارئ. بهذه الرسوم يمضي الفنان المبدع بهجت عثمان في طريق اختطه لنفسه منذ مدة وهو يقضي بأن يترك جانبا النقد الفردي العابر لظواهر متفرقة من حياتنا الاجتماعية والسياسية ويختار الموضع الواحد المتصل يتأمله من عشرات الزوايا ويلقي عليه الضوء بعد الضوء فإذا جوانبه تتكشف لنا بوضوح وتصبح الرسوم المتفرقة كلا واحدا متسقا علي نحو ما فعل بهجت في كتابه الاول الذي بدا في هذا الاتجاه: حكومة وأهالي في هذا الكتاب اشار الفنان باصبعه الي حقيقة ثورية تلك ان الشرطي الذي يمثل الحكومة هو واحد من افراد الشعب تستغله الحكومات الظالمة كي تحكم قبضتها علي الاهالي وطوال الكتاب تتضح حقيقة اخري وهي ان الغنم دائما للحكومة وافرادها وان الاهالي لا يحصلون الا علي فتات الموائد, نظير عملهم الشاق ويتضح ايضا ان الاهالي ليسوا مخدوعين بما تقوله الحكومة عبر اذاعتيها المرئية والمسموعة ومن خلال صحفها ومجلاتها التي يتولاها كتاب دائمون يخدمون العهد وكل عهد. بهذا يصبح الرسم الكاريكاتوري بحثا في أحوال الوطن علي شكل رسوم ويستحق ان يجمع في كتاب وان تضمه المكتبات اسوة بما حدث للمسرحية التي انتقلت من عرض يظهر علي الخشبة ويعرض وقتا يطول او يقصر ثم ينتهي فلا يعرف طريقة الي المطبعة حتي جاء توفيق الحكيم فعمق من النظرة إلي الفن المسرحي ورفعه إلي مرتبة الأدب. وشيء من هذا يحدث لفن الكاريكاتور هذه الايام يقول لي بهجت ان كتابه الجديد, هذا الذي كان من حظي ان اكتب له هذه المقدمة, مطلوب للطبع في المغرب وفي السودان, علاوة علي طبعه في القاهرة, فهو اذن تحول واضح لفن الكاريكاتور ولفنانيه علي السواء هم عمقوا من نظرتهم إلي مجتمعهم فتخطت رسومهم مرحلة الآنية واصبحت قادرة علي البقاء وهم قد قدموا شهداءهم في قضايا التحرر الوطني: زهدي رسام الكاريكاتور زار المعتقل سنوات طويلة مع زميله الفنان التشكيلي الشامل حسن فؤاد وناجي العلي وهب حياته لفضح خونة الداخل والخارج لقضية فلسطين فكوفئ بوسام القلم الذهبي لقاء شجاعته وبصيرته وخدمته العميقة المخلصة لقضايا شعبه وباقي الشعوب وصلاح جاهين مات مفطور القلب حزنا علي قضايا وهب لها احسن ابداعه واسعد ايام حياته فلما جمعت رسومه في كتاب اقبل عليها الناس وتناولها النقاد بالاهتمام مثلما يفعلون في باقي ألوان الابداع. لم يعد باقيا الا ان ينفذ الرسام زهدي مشروعه الكبير بكتابة تاريخ الكاريكاتور في مصر فهو حافل بطرائف كثيرة وهو يثبت انه منذ اللحظة التي تسلم فيها الفنان المصري في الكاريكاتور من الفنانين الاجانب الذين بدأوه في مصر اخذ يتحول الي اسلحة ماضية في ضرب البطش والقهر والاستبداد واذا كان فن الكاريكاتور قد تميع وقل اثره في سنوات الانفتاح وما تلاها من نكبات فلايزال في الامكان ان تعود اليه قدرته السابقة, وها هي رسوم بهجت تثبت انها خطوات قوية ومبشرة في طريق عودة الازدهار لفن الكاريكاتور العظيم تحية للفنان الكبير بهجت من زميل له في الاهتمام بالكاريكاتور هم بهجت ان يبدع الرسوم وهمي ان ارعي المسرحيات والكاريكاتور مسرح بالامكانية خاصة اذا فكرنا في مسرح العرائس والمسرح كاريكاتور بالقدرة الكامنة خاصة اذا فكرنا في الكوميديا الهجائية والانتقادية وكوميديا الكباريه السياسي وكوميديا النقد الاجتماعي.