خلال إحدي الدورات التدريبية لمنتدي البحوث الاقتصادية, تساءلت إحدي المشاركات في الدورة, قائلة: إنها طبيبة وحاصلة علي الماجستير في الإدارة وكان سؤالها: ما أهمية علم الاقتصاد لمثل من هو في مجالها, الذي هو الطب والصحة؟ وكان السؤال واضحا, لماذا يتضمن البرنامج التدريبي وجود اقتصادي, مثلي, بين المحاضرين, وهل يفيد التكوين العلمي في الاقتصاد, للتأهيل لمن لم يعملوا في الحقل الاقتصادي والمالي؟ فالانطباع السائد عن الاقتصاد, هو أنه حرفة للتعامل مع الأسواق, وكيفية تحديد الأثمان, ودور المنافسة والاحتكار, ولم يقتصر ذلك علي مظاهر التجارة الداخلية بل امتد إلي التجارة الدولية. وكذا هناك أشكال التمويل ودور النقود في الحياة الاقتصادية ومن ورائها البنوك والمؤسسات المالية. كذلك تضمنت النظريات الاقتصادية مسألة تمويل الخزانة العامة وأساليب فرض الضرائب وأشكال الموازنات والإنفاق العام. فمجال الاقتصاد وهو التعامل مع الثروة والأموال. ولعله لهذه الأسباب جاء عنوان كتاب آدم سميث عن ثروة الأمم. وقد ظل هذا الارتباط بين مفهوم الثروة أو التجارة من ناحية, وبين علم الاقتصاد من ناحية أخري, مستمرا حتي جاء الاقتصادي البريطاني ليونل روبنز الأستاذ في جامعة لندن, ليعرف الإقتصاد بأنه العلم الذي يدرس السلوك الإنساني في العلاقة بين أهداف معينة ووسائل محدودة لها استخدامات متعددة. وبطبيعة الأحوال, فإن المجال الطبيعي والأكثر وضوحا هو مجال الإنتاج والاستهلاك. فالمنتج يحتاج إلي أسواق, ومن هنا ضرورة الأسواق وفهمها. وهو كذلك يواجه اختيارات متعددة, فهو يبدأ عادة برأسمال أو فكرة ويود استغلالها في السوق. وهنا يبحث عن نوع النشاط الذي يبغيه آخذا في الاعتبار قدراته الفنية والمالية. وعندما يقرر البدء بنشاطه الإنتاجي فلابد أن تكون لديه فكرة عن تكاليف الإنتاج ومدي حاجة السوق إلي منتجه. وبالمثل فإن المستهلك يواجه مشكلة قريبة وهي أن لديه حاجات متعددة ويستطيع إشباعها عن طريق السوق, ولكنه لا يملك إلا موارد مالية محدودة, فكيف يوزع موارده المالية المحدودة بين الحاضر والمستقبل وتوزيعها للحصول علي ما يعتقد أنه يوفر له أكبر إشباع ممكن. وهكذا نجد أن مشكلة كل من المنتج والمستهلك هي مشكلة اختيار. ولكن المشكلة بهذا الشكل لا تواجه المنتج أو المستهلك فقط وإنما تكاد تواجه كل متخذ للقرار. ولذلك جاء الاقتصادي الأمريكي جاري بيكر بالقول إن المنهج الاقتصادي لا يقتصر علي الاستخدام الأمثل للموارد, كما هو شائع, بل إن المنطق الاقتصادي يتعلق بتعظيم المنافع الممكنة من أي نشاط يواجه الإنسان. وكان بيكر قد استخدم هذا المنطق الاقتصادي في تفسير ظاهرة التمييز العنصري, وربما حصل علي جائزة نوبل للاقتصاد بسبب نظرته الواسعة إلي الاقتصاد بإعتباره منطقا للسلوك البشري لتحقيق الرشادة في استخدام الموارد المتاحة. كذلك, الاقتصاد هو ايضا علم الحوافز لاتخاذ القرارات السليمة. وكان وضع الاقتصاديين للمشكلة الاقتصادية, باعتبارها مواءمة بين الحاجات المتعددة للإنسان والموارد المحدودة, وبالتالي ضرورة تحقيق التوازن بينهما فاتحة لاختراقات علمية رائدة. فقد حاول الاقتصادي الإنجليزي مالتس البحث عن كيفية تحقيق التوازن بين الزيادة السكانية والموارد الغذائية, وقد ساعدت أفكاره علي توجيه العالم البريطاني شالز داروين إلي فكرة الصراع من أجل البقاء وبالتالي ظهور نظرية التطور. ولذلك لم يكن غريبا أن تمنح جائزة نوبل في الاقتصاد لغير الاقتصاديين. فكان أول من حصل علي هذه الجائزة هو النرويجي راجنر فريش وهو رياضي في الأساس, ومعه عالم الفلك الهولندي تنبرجن. كذلك فقد حصل علي هذه الجائزة الهولندي كوبمان في1975 مع الروسي كانتوروفيتش لدورهما في وضع أساليب بحوث العمليات وتحليل الأنشطة الرياضية لعرض المشكلة الاقتصادية. وبعد ذلك بثلاث سنوات منحت نفس الجائزة لهربرت سايمون لأفكاره في اتخاذ القرار باستخدام نظريات المعلومات والذكاء الصناعي. وأخيرا حصل العالم النفسي دانيال كهنمان علي نفس الجائزة في2002 لتأكيده التناقض بين النظريات الإحصائية للاحتمالات وبين السلوك البشري الشائع في اتخاذ القرارات الاقتصادية. فالإنسان بتكوينه الغريزي الموروث غير قادر علي التعامل السليم مع تعدد الاحتمالات المستقبلية. ولكن الاختيار في الاقتصاد لا يقتصر علي المقارنة بين البدائل المتعاصرة, بل قد يكون اختيارا في الزمان. فالنشاط الاقتصادي هو بطبيعته نشاط ممتد في الزمن, ومن ثم فإن الاختيار قد يكون بين بدائل تتحقق علي فترات زمنية مختلفة. فكيف نقارن بين الحصول علي عائد يتحقق بعد ثلاث سنوات مثلا ويمتد لعشر سنوات وبين عائد آخر أكبر ولكنه يتحقق بعد خمس سنوات ويمتد لخمس عشرة سنة؟.. وهل يتغير الأمر لو كان الفرض الثاني يتحقق بعد عشرين سنة مثلا؟ كل هذا يتطلب مقياسا للتفضيل الزمني, وهو ما يعرف باسم سعر الفائدة أو سعر الخصم, وعن طريقه نستطيع أن نحدد ما يعرف القيمة الحالية للتدفقات المستقبلية. وأخيرا, فإن الاختيار بين البدائل لا يكون دائما بين أمور يقينية, بل قد تكون هناك درجات للاحتمال لكل منهما. ولذلك فإن القرار يتطلب التعامل مع الاحتمالات المختلفة, ومن هنا أهمية الدراسات الإحصائية للاحتمالات. كذلك فإن النظرية الاقتصادية لم تتوقف علي طرح قضية اتخاذ القرار أمام خيارات متعددة لتحقيق مصلحة متخذ القرار, ولكنها تطرح قضية في غاية الأهمية وهي قضية ما يعرف ب السلع العامة.. فليس كل ما يعود علي الشخص من منافع أو تكاليف هو كل ما في الصورة, فهناك ما يعرف ب بالعناصر الخارجية, التي تؤثر علي الغير, وهو ما يعرف ب بالعناصر الخارجية. فالعملية الاقتصادية قد تصيب المجتمع في مجموعه بأضرار أو منافع, رغم ان أصحاب العلاقة المباشرة لا يتأثرون بها بشكل مباشر. فالاقتصاد لا يقتصر علي دراسة المكاسب والخسائر المباشرة للمتعاملين, بل إنه وجه النظر إلي أن العديد من القرارات التي يتخذها الأفراد في معاملاتهم الفردية كثيرا ما تكون لها آثارا نافعة أو ضارة علي المجتمع في مجموعه. ويحدث هذا إزاء الإخلال بالبيئة مثلا عند قيام الصناعة دون مراعاة القيود المفروضة, وحيث يتحمل المجتمع أعباء هذه التكلفة. أو علي العكس فقد تكون هناك منافع أخري للنشاط يفيد منها المجتمع وتجاوز المستفيد المباشر, كما في التعليم مثلا, فالمستفيد من التعليم ليس وحده طالب العلم, ولكنه المجتمع في مجموعه. ففكرة السلع العامة والمزايا أو الخسائر الخارجية تجعل من علم الاقتصاد علما للمصلحة العامة بقدر هو علم للمصالح والتكاليف الفردية. وهكذا يتضح أن التدريب الاقتصادي يسعي لتأكيد بعض الحقائق الأولية, وفي مقدمتها أنه لا شيء يمكن الحصول عليه بلا تضحية, وأن الإنتاج يتطلب تحمل التكلفة, فلا وجبات مجانية أو سريعة في الحياة, وهناك دائما مقارنة بين العائد والتكلفة. وعندما نتحدث عن الانتاج فإننا نعني تحقيق قيمة مضافة تزيد علي تكلفة هذا الإنتاج, وبما يغطي أجر العمالة الكافي لاستمرارهم في الحياة المقبولة( الحد الأدني للأجور). والقول بغير ذلك هو انحياز لمصالح أرباب العمل بتعظيم فائض القيمة لهم علي حساب العمال. ومع زيادة البطالة تزداد الحاجة إلي هذا الحد الأدني حتي لا يعاني من يعمل ومن لا يعمل. وكذلك فإن الخيار المطروح للقرار لا يكون دائما بين الحسن والأحسن, بل كثيرا ما يكون بين المر والأمر. وبالمثل فإن التعامل مع الزمن يتطلب مقياسا للتفضيل الزمني, علاوة علي أن درجات الاحتمال قد تتطلب معالجات خاصة. وأخيرا فإن المنفعة والتكلفة المباشرة للمتعاملين ليست هي الآثار الوحيدة للقرارات, فهناك منافع وتكاليف وأعباء اجتماعية خارجية تتعلق بالمجتمع في مجموعه ولا يمكن تجاهلها. ولذلك فإنه لا بأس إطلاقا, من أن تتلقي طبيبة مثقفة, محاضرة من اقتصادي في كيفية اتخاذ القرار المناسب, وذلك من منطلق علم الاقتصاد. والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي