لأول مرة خلال مايزيد علي العشر سنوات يتعرض رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية إلي هزيمة في قلب مدينته خصوصا اسطنبول بعد انتفاضة ميدان تقسيم الذي اندلعت فيه المظاهرات والاحتجاجات العنيفة منذ أسابيع قبل أن تمتد الي مدن أخري ضد بعض السياسات التي اعتزم اردوغان اتخاذها ومنها تغيير معالم الميدان الشهير, فضلا عن إقرار البرلمان- الذي يشكل حزبه الأغلبية فيه- لمشروع قانون يمنع بيع المشروبات الكحولية بعد العاشرة مساء وان لم يصدق عليه رئيس الجمهورية بعد. إلا أن الأمر يبدو أكثر تعقيدا من ذلك ويتجاوز هذين السببين المباشرين, فالصراع الدائر في تركيا الآن يحمل أبعادا سياسية وايديولوجية ربما تكون اخطر مما يبدو علي السطح وقد يلخصها الشعار المرفوع في المظاهرات كلنا جنود مصطفي كمال لانه ببساطة يشير الي جوهر الازمة التركية وهذا أيضا ما دعا أردوغان الي استخدام عبارات قاسية في وصف المتظاهرين فضلا عن لجوء حكومته الي العنف المفرط في مواجهتهم مما يعكس عمق الصراع وخطورته علي مستقبل تركيا خاصة ان انتفاضة تقسيم لم تقتصر علي القوي والأحزاب المعارضة وانما امتدت الي المثقفين والفنانين وقطاعات واسعة من المجتمع تعبر عن فئات وشرائح اجتماعية مختلفة ليست بالضرورة مسيسة أو منتمية إلي أحزاب وحركات منظمة. ولا يعني ذلك أن حكم أردوغان بات علي وشك السقوط وإنما يعني أن تداعيات هذه الأزمة ستمتد الي ما هو أبعد من الأحداث الأخيرة- حتي لو تم احتواء الموقف مؤقتا- لتعكس صراعا علي هوية الدولة والأهم من ذلك هو الأثر السلبي الذي سيخلفه حول النموذج التركي, الذي من المراد تصديره الي المنطقة علي أنه نموذج ديمقراطي ناجح ومنفتح في دولة اسلامية يقودها حزب ذو خلفية اسلامية لتحتذي به حركات الاسلام السياسي الصاعدة الي الحكم في عدة جمهوريات عربية تجتاحها ثورات الربيع العربي. ولاشك أن الدور الاقليمي لتركيا اكتسب زخما ملحوظا في الآونة الأخيرة انطلاقا من هذه الزاوية تحديدا. صحيح أن تركيا تسعي لأسواق الشرق الأوسط, وأن هناك بعدا اقتصاديا واستثماريا واضحا في سياستها الاقليمية, لكن مسألة النموذج ظلت محورية في تلك السياسات كمدخل يميزها عن باقي الدول الاقليمية الكبري مثل ايران أو السعودية أو حتي الدول الصغيرة مثل قطر التي تسعي للعب دور اقليمي يفوق حجمها, بل إن تركيا أردوغان اكتسبت أهمية متزايدة في الاستراتيجية العالمية خاصة الأمريكية وثقلا اقليميا ملحوظا لدورها الاقليمي في هذا السياق اعتمادا علي الاعتبار نفسه أي كقيادة سنية معتدلة في منطقة باتت منقسمة طائفيا ومذهبيا الي معسكرين أساسيين سني وشيعي. لا أحد يستطيع أن ينكر أن لأردوغان وحزبه سلسلة من الانجازات الاقتصادية والاجتماعية وفرت له حكما مستقرا علي مدي عقد من الزمان خاصة ما يتعلق بارتفاع معدلات النمو ودعم الطبقة المتوسطة ورفع كفاءة أداء الحكومة في مجال تطوير المدن والخدمات العامة وفي المحليات, فضلا عن الحفاظ علي قوة النظام الحزبي ودورية الانتخابات والتحول الي الحكم المدني بعد مرحلة طويلة من الانقلابات العسكرية وغيرها وهو ما أتاح لحزبه الفوز في الانتخابات النيابية ثلاث مرات متتالية. ولكن يبدو أن هذه الانجازات أغرت أردوغان أخيرا للقفز علي المعادلة الدقيقة التي اعتمدها منذ أول نجاح انتخابي تحقق لحزب العدالة والتنمية في202, والتي تقوم علي احترام مبادئ العلمانية التركية و التقاليد االكمالية التي صرح بالتزامه بها و أبقي علي موادها في الدستور وفي القسم الجمهوري والبرلماني. ومعروف أن تلك المعادلة( أي عدم تصادم المرجعية الأيديولوجية لحزب العدالة والتنمية مع القواعد المستقرة للدولة والمجتمع) كانت سببا رئيسيا في نجاح أردوغان بعد انفصاله وعبدالله جول الرئيس الحالي عن حزب الرفا الذي أسسه نجم الدين أربكان و تأسيسهما لحزبهما المستقل. ولكن يبدو أنها- أي هذه المعادلة- لم تعد كما كانت. إن ما تشهده تركيا الآن من صراعات ليست وليدة اللحظة وإنما نتيجة جملة من الأسباب والتراكمات التي أدت الي انفجار الوضع. فحزب العدالة والتنمية الذي جاء الي الحكم عبر صناديق الانتخابات بصورة مثيرة للاعجاب تحول مع الوقت الي شكل من اشكال الأحزاب الشمولية يسعي الي فرض ايديولوجيته علي مختلف قطاعات الدولة والمجتمع من القضاء الي الجامعات والتعليم والاعلام فضلا عن الممارسات المقيدة لحريات التعبير حتي باتت تركيا أخيرا- وفقا للتقارير الدولية- من أكثر الدول نسبة في عدد المعتقلين من الصحفيين تحديدا والنشطاء السياسيين, وفي نسبة الضغوط المفروضة علي الصحافة واستبعاد رموزها المعارضة لسياسات الحزب, وتزايد قوائم المنع من الظهور في وسائل الاعلام. اذن هي سلسلة من الاجراءات يسعي من خلالها أردوغان وحزبه الي فرض أجندته الأيديولوجية علي المجتمع التركي وعلي ثقافته وعلي نمط سلوك الأفراد وتفاصيل حياتهم اليومية, أي الحريات الشخصية وهذا ما يفسر تقدم قادة الفكر والرأي والفن والثقافة والتنظيمات الحقوقية والنسائية صفوف مظاهرات تقسيم. بعبارة أخري إن هذه الاحتجاجات الواسعة لا يمكن تفسيرها أو وضعها في اطار ضيق كمجرد صراع علي السلطة بين حزب حاكم وأحزاب معارضة, وانما هو صدام مجتمعي مع المشروع السياسي الاسلامي الذي يتبناه العدالة والتنمية والذي تكشفت معالمه بوضوح وبدا أنه لا يختلف عن أي حركة سياسية اسلامية تفشل في المواءمة بين مرجعيتها الأيديولوجية ومقتضيات الحياة العصرية والدولة المدنية, وأن الفارق الوحيد كان فقط في توقيت تطبيق مشروعه واتباعه المنهج التدريجي وهو ما لايعد اصلاحا أو اجتهادا مختلفا ومن هنا يتهمه المحتجون بأنه يسعي لاحياء الهوية العثمانية القديمة. وأخيرا فإن الديمقراطية لا تعني هيمنة حزب واحد حتي إن فاز في الانتخابات, كما أنها ليست مجرد عملية حسابية تحسب بالأرقام لتعطي لصاحب الأغلبية الحق في تغيير قواعد المجتمع و هوية الدولة. لذا سيظل الصراع قائما سواء انفجر- مثلما حدث- أو بقي تحت السطح, وفي كل الأحوال فقد خسرت تركيا لقب التجربة النموذج. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى