هو شيخ رسامي الكاريكاتير87 عاما أطال الله في عمره يكتب هذه السلسلة عن الشخصيات التي شغلت حيزا في وجدانه وخزانة ذكرياته التي يفتحها لملحق الجمعة ب الأهرام يتناول فيها الكواليس التي عاصرها عبر مشواره الذي يمتد لأكثر من65 عاما.. وتأتي أهمية هذا السرد الذاتي إلي كونه ليس مجرد حكي بقدر ما هو تأريخ وتسجيل لأحداث غنية بالمعلومات والأسرار ولكن غفلها التاريخ كما يحدث عادة وأسقطها من ذاكرته الرسمية, وكما يفعل رسام الكاريكاتير فهو لايرسم الواقع ولكن تأثير الواقع عليه... كذلك كتب طوغان عن هذه الشخصيات بصدق وحب. a اليمن مدينة السحر والجمال ولكن عندما دخلت مدينة صنعاء راعني أن البيوت والأزقة والحواري والدروب والحوانيت, وحتي الناس بوجوههم وقدودهم وأزيائهم كنت أراهم في صور للقرن الرابع عشر! كانت تلك هي زيارتي الأولي لليمن وكنا في عام1962, بعد شهور من انتفاضتها الأخيرة التي حققت فيها ثورة أطاحت بعهد دام آلاف السنين وتسبب في تخلف اليمن عن ركب الحضارة الإنسانية وأوقف مسيرتها عند القرن الرابع عشر! عاش اليمنيون آلاف السنين في ثورات وانتفاضات انتهت كلها بالفشل إلي أن جاءت ثورة سبتمبر ونجحت وبدأت اليمن تتنفس وتحاول اللحاق بالركب! وثورة سبتمبر كتبت نهاية عهود طويلة كانت مترعة بالمآسي والفواجع والنكبات راح فيها ملايين الضحايا; قطعوا بالسيوف أو ماتوا بالجنون في السجون التي كانت في باطن الأرض تسكنها العقارب والحيات! وفي عام1948 كانت قد اندلعت ثورة قام بها مجموعة من ضباط الجيش يساندهم عدد من مشايخ ورجالات اليمن, نجحوا في قتل الإمام يحيي حميد الدين واستولوا علي الحكم لمدة أسبوع, بعده أفلح ابنه الإمام أحمد في القضاء علي الثورة وتولي الحكم وراح لفترة ليست قصيرة في ممارسة هوايته في جز الرءوس بالسيف إعلانا وابتهاجا بالحكم الجديد! ولأن الإمام أحمد اعتبر صنعاء مسئولة عن الثورة وعن مقتل أبيه فقد أباحها لرجاله أسبوعا كاملا يفعلون فيها ما يشاءون من سبي وقتل ونهب كل ما استطاعوا حمله معهم وهميغادرون! ومن يومها نقل عرشه إلي مدينة تعز ثاني أكبر مدن اليمن! وفي عام1955 قامت ثورة جديدة تزعمها ضابط كان اسمه أحمد الثلايا وانتهت أيضا بالفشل, وكانت سعادة الإمام البالغة وتسليته المحببة التي مارسها لمدة شهور, هي تصفيف الرجال بالعشرات في ساحة عريضة أمام قصره بمدينة تعز وهم مصفدو الأيدي والأرجل بسلاسل الحديد, منكسو الرءوس وحول الساحة مجموعات من الناس بينهم أطفال جاءوا بأمر الإمام لحضور الاحتفال بفقء العيون وقطع الرءوس وتعليقها علي باب صنعاء لتأكلها وتنهش فيها النسور التي وجدت منها في اليمن أكبر مجموعة شاهدتها في حياتي! وفي بيت الضيافة الذي كان أول مكان نزلت فيه سمعت أغرب وأعجب القصص والحكايات عن اليمن وأحوال اليمن, أغربها قصة الناس وكيف كانوا يعيشون تحت حكم دام آلاف السنين انتهي بالثورة وفرار الإمام البدر آخر ملوك اليمن الذي كان قد تولي الحكم لمدة أيام بعد وفاة أبيه الإمام أحمد بن يحيي حميد الدين!! بين أقداح القهوة والنرجيلة المزركشة وكل شيء مزركش في اليمن وقهوتهم التي يطهون فيها قشر البن ويحكون الحكايات روي لي الأشقاء اليمنيون أغرب وأعجب القصص عن الإمام أحمد الذي تولي العرش بعد مقتل والده الإمام يحيي حميد الدين في ثورة1948! كان الإمام أحمد في حوالي الخامسة والخمسين من العمر, وكان إذا غضب يتحول إلي وحش كاسر مفترس, وعندما يصيبه الفرح والحبور يستلقي علي قفاه ويفحص برجليه في الأرض كالأطفال! كان يحتفظ في قصره بمكتبة فيها أندر أنواع الكتب يقرأها ويتمعن فيها وأحيانا كان يستغرق ساعات في القراءة والمعرفة, وفي نفس الوقت حرم الكتب والمعرفة علي الناس إلا ما تسمح به أريحيته من كتب تفسير يقوم به علماؤه إلي جانب أحاديث ومديح في حكم الأئمة! عجائب وغرائب كان عندما يغضب علي قبيلة يسحقها بإعدام رجالها واستباحة بيوتها, وإذا رق كان يفرض عليها الخطاط.. ونظام الخطاط كان يحتم علي كل بيت من بيوت القبيلة المخطط عليها استضافة خمسة رجال من قبيلة أخري يختارها الإمام, والخمسة غذاؤهم اليومي شاة وثريد يكفيهم وربما يزيد ويظل الخطاط علي القبيلة المتمردة مستمرا إلي أن تعلن الخضوع وتطلب العفو والغفران! كان ذلك أسلوب الإمام في حكم بلاد اليمن, عزلها وإبعادها عن الدنيا لدرجة أنه حتيالحربين العالميتين الأولي والثانية لم يعرف عنهما اليمنيون شيئا لا عند قيامهما ولابعدانتهائهما! وغادرت قصر الضيافة في جولة للمدينة القديمة العريقة, ورأيت المرأة في شوارعها تسير مغطاة بالسواد من قمة رأسها إلي أخمص قدميها! ونادرا ما كانت تبين من بين عصابة الرأس ولثام الفم عينان تذكران بعيون زرقاء اليمامة التي أنقذت القبيلة عندما كشفت من مسافة بعيدة عن جحافل أعدائها وهم في طريقهم إلي الغزو والعدوان! أما الرجل فكان يأتزر بمئزر يغطي البطن والركبتين بقماش ملون بخطوط ملونة, والصدر عليه قميص ملون منقوش ويتمنطق بحزام عريض مرصع بتشكيلات من النحاس وفي وسطه في مقدمة الهيئة خنجر نوعه وجفيره يحددان المركز الاجتماعي للرجل الذي عادة ما يكون مكحول العينين ويلف رأسه بعمامة تشكل هوية القبيلة التي ينتمي إليها! وخارج قصر الإمام كان الشغل الشاغل للرجل هو الحرب دفاعا عن قبيلته, وإذا ما أقعده المرض أو التقدم في السن أو تمكن وأفلت من قبضة التخلف بالفرار إلي خارج اليمن يحقق نموذجا ناجحا من بين التجار, أما الذين كتب عليهم البقاء ففيهم من ينخرط في صفوف القبائل ويشترك في حروبها أو غزواتها وفيهم من يتخذ له حانوا ضيقا للتجارة والعرض يكاد يكفيه للاسترخاء ومضغ نبات القات المهدئ علي طول الشارع الضيق الذي يشق سوق الملح أشهر مكان في صنعاء بعد قصر الإمام أحمد! بعد مسيرة حوالي ثلاث ساعات وصلنا إلي قرية بوعان إحدي قري قبيلة بني مطر الذين يزرعون البن المطري أجود أنواع البن في العالم, يزرعونه علي نظام المصاطب الذي جاء به حكيم من حكماء اليمن في الزمان القديم وعندما نجحت فكرته نصبوه ملكا عليهم وهو أبو الملكة بلقيس الشهيرة في التاريخ! بعد حوالي خمس ساعات, كانت السيارة تزيد من سرعتها وبين الحين والحين يخرج طفل من بين الصخور ملوحا بيديه يعرض للبيع ثمارا تشبه المانجو وتكثر في هذا الجزء منالطريق! بعد فترة بدأنا في النزول لندخل في غابات منتشرة تكثر علي أشجارها ببغاوات جميلة زاهية الألوان, ومن بين سيقان الشجر تتجول طيور وديوك رومية وحشية تمرق في زهو وكبرياء بالبهاء الذي يكسو ريشها الملون بمختلف الألوان! عندما بلغنا قرية مناخة بغاباتها الكثيفة ظهرت أفواج من القردة التي تكثر علي جانبي الطريق تلتقط حبات من نبات القشدة التي يتعفف اليمنيون عن أكله ويقولون إنه حقالقرد! عشت في التاريخ, وكل سنتيمتر في اليمن له تاريخ وعدت بمجموعة من الرسوم لصنعاء البديعة ومأرب والحديدة وصعدة, ولا يفوتني القول بأنني زرت عبس بطبيعتها الجميلة وبيوتها من الخوص في حدائق من الحشائش والأشجار والزهور الملونة, ونسائها اللواتي يرتدين المآزر زاهية الألوان لتختلط ألوان الملابس مع ألوان الزهور ويشكلون لوحات بديعة لبيئة أخرجت الشاعر الخالد عنترة العبسي الذي يعبر شعره عما تنفرد به اللغة العربية من رقة وعذوبة عندما وصف في قصيدته لمعشوقته عبلة ما دار في المعركة التي كان يدافع فيها عن القبيلة ضد المغيرين أذكر منها بيتين قال فيهما: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم كانت تلك زيارتي الأولي لليمن, في الطريق كان يفاجئنا البرد والصقيع, وكلما أوغلنا جنوبا كانت الحرارة تزيد, وعندما بدأ هبوب الهواء الساخن والسفود وهو التراب الدقيق الذي يملأ العيون والأنوف تلفحنا بما أمكن من الثياب; غطينا بها رؤوسنا إلي أن ظهرت لنا مجمعات أكواخ إفريقية كان فيها سكان الساحل اليمني وتعلن أننا وصلنا إلي مشارف الحديدة التي عشت فيها أياما كانت شديدة الحرارة بشكل فاق قدرتي علي التحمل مما دفعني إلي العودة لصنعاء بالطائرة ومنها دخلت في طائرة أخري ضخمة كان حجمها كالبيت الكبير ووصلت بها إلي القاهرة بعد طيران أربع ساعات! عندما عدت إلي القاهرة حكيت ورويت وكتبت ورسمت كيف عشت التاريخ, كل شيء في اليمن له تاريخ, حتي الشجر والرمل والصخر والحيوان! وأقمت معرضا لرسومي عن اليمن في دار المركز الثقافي التشيكي الذي كان في الدور الأول من العمارة المواجهة لمنزلي في شارع شريف! كما نشرت لي جريدة الجمهورية سبع صفحات مصحوبة بالرسوم عن الرحلة وما رأيته فيها, وخلال سهرة في الجمهورية جاءتنا الأنباء بما يقلق ويشغل البال: قوي خطيرة تتربص بالثورة الوليدة! عندما مات الإمام أحمد الجبار العاتي بعد مرض مذل, تولي ابنه وولي عهده, البدر, وبالرغم من أن البدر كان متفتح العقل, إلا أن الثوار كانوا قد تعاهدوا علي إنهاء العهد الذي جثم علي صدور الناس آلاف السنين وألزمهم بالبقاء في القرن الرابع عشر! وبدأ البدر يستجير بالقبائل ويناشدهم بحق الوراثة وحق الانتساب وحق الولاية الوقوف إلي جانبه, وتقدمت قبائل كانت مازالت تعيش في القرن الثاني عشر وناصرت الإمام البدر بن الإمام أحمد بن الإمام يحيي حميد الدين أمير المؤمنين وحامي حمي المسلمين! كانت القاهرة تعرف عن اليمن من خلال مجموعات من الشباب اليمنيين كانوا قد جاءوا إلي مصر وعاشوا فيها, ودرسوا بها وعندما سألوهم عما يتوقعون حدوثه في اليمن, قال عدد منهم: أهل مكة أدري بشعابها.. وإن أبناء اليمن قادرون علي مواجهة الأمر! ومن غرائب الأمور أنه عندما أصبح الإمام أحمد عضوا في اتحاد الدول العربية ونشرت صوره في الصحف والتليفزيونات, أدرك أهمية الموضوع فوافق علي إرسال مجموعات من الشباب لتلقي العلم بالخارج وكانت مصر من بين البلاد المختارة, ولكنه اشترط بشكل جازم عدم الاختلاط بالمصريين, وعندما جاءت البعثة إلي القاهرة, قسموها قسمين, واحدا منهما أقاموا له معسكرا في صحراء حلوان, والثاني علي أطراف مدينة بني سويف وكل من المعسكرين له سور مرتفع! ومن خلال الأسوار تسربت الأنباء عن شكل الحياة في الخارج واكتشفوا أنهم يعيشون خارج الزمن, ولم تستطع الحراسة والقيود أن تمنع المقدر والمكتوب فنشأت علاقات وانعقدت صداقات وعاد معظمهم بعدها إلي اليمن والتقوا بالقرين وتساندوا مع أبطال الداخل وأعلنوا ثورة سبتمبر! وجاءت مصر أنباء تقول بأن القوي المعادية للثورة بدأت في حشد ما بقي من قواها في مناطق بشمال اليمن, تجمعوا بالمدافع والصواريخ وأطنان من قطع السلاح والذخيرة يقودهم مرتزقة أجانب! وزاد القلق في مصر, فعززت السرية التي كانت قد أرسلتها بكتيبة ثم عززت الكتيبة بلواء وظلت القوات تتوالي حتي تعدي العدد سبعين ألف جندي! وكان رد الفعل زيادة في حجم القوي المعادية التي تلقت المساندة من الخارج! عند ذلك أرسلتني الجمهورية إلي اليمن, ومن حسن الحظ وقتها كان اللواء حسني عبدالمجيد مديرا لإدارة التوجيه المعنوي والتفت لي فألحقني بقسم الحرب النفسية وانتدب العقيد عصمت عيسي مرافقا لي فذهبت إلي صنعاء, وطلبوا مني الذهاب إلي صعدة, وعندما وصلت بالطائرة وجدت في انتظاري الرائد محمود سامي من الصاعقة البحرية ولم أسأل: لماذا الصاعقة البحرية؟! حتي لا يقال لي: مالكش دعوة! انضممت إلي الصاعقة البحرية وأصبحت صديقا حميما لسامي ولباقي الكتيبة وحتي اليوم لي ضهر في الإسكندرية! وفي فجر اليوم التالي تحركنا عبر كروم العنب والصخور والوهاد والأخاديد حتي بلغنا جبل براش, في ضوء الغسق, وكانت الشمس تغوص وراء جبال بعيدة بأشعتها الباهتة التي كانت تترك مئات من درجات الألوان علي جبل الصحوتين القريب, وعلي سفح براش وجرف العاشق ودماج تعارفنا, كانت المجموعة التي هيأ لي القدر أن أعيش بينها أيامي العشرين في جبل براش, جنودا وضباطا يمنيين معهم كتيبة من شباب الصاعقة البحرية, وكانت الحياة هنا جديدة عليهم, حياتهم كلها كانت مع البحر, وكان الجبل بالنسبة لهم شيئا جديدا! وأعطيك فكرة سريعة عن جبل براش فأقول إنه من أشق جبال اليمن, مهول الارتفاع, الصعود إلي سطحه يستغرق ساعات تنتهي لتجد نفسك في مواجهة قمة من البازلت شديد السواد واعتلاؤها مستحيل; وكان اليمنيون يقولون إن القمة يسكنها الجن! وما أن وصلنا إلي سفح الجبل حتي انفجرت القنابل وهدرت المدافع وارتفعت أعمدة الدخان ودارت الحرب وقتل رجال ووقع في الأسر آخرون وانتهت الجولة الأولي في الثالثة فجرا ليصبح الجبل في أيدي الصاعقة البحرية! وران الصمت وأوغل السكون في العمق والرهبة وقبل أن تجف حبات العرق, انفجر المرجل مرة أخري وانطلق الرصاص من جديد ولمعت الخناجر وامتدت الأيدي بسناكي البنادق وارتفع زئير الحرب وتطايرت كرات الثلج التي كانت تكسو قمة الجبل, وتمزق الهجوم الثاني بطلب تقدم به المغيرون لسحب قتلاهم مع وعد بعدم المحاولة مرة أخري, وبارك الله في الكريم الذي يعفو والقوي الذي يصفح! وفي اليوم التالي وبعد دخول الليل علي مهزوم يضنيه القهر وتفريه الهزيمة ويداعب صدره بقية من أمل انتهي عندما فوجئ براية مرفوعة علي القمة التي يسكنها الجن! كان جندي من الصاعقة قد تسلق الجبل ووصل إلي القمة وغرس عليها الراية فأجهض أحلام المغيرين الذين تصوروا بأن المصريين غلبوا الجن فلاذوا بالفرار! لتنتهي معركة ظلت مستعرة ثمانية أيام, وقد حاولت العثور علي هذا الجندي وسألت النقيب وهيب أحد أفراد الكتيبة: من يكون هذا الجندي؟! فقال: أهو واحد من العساكر! وعلي سفح جبل براش في صعدة, وخلال ليل غاب قمره واشتد فيه الظلام, وعلي ضوء باهت يخرج من قنديل صغير تبينت وجها جديدا لشاب بدأت صداقتي به, كان قد جاء علي رأس مجموعة من شجعان قبيلة الحدا التي ناصرت الثورة منذ دقيقتها الأولي, كان اسمه محمد عبدالله والحرب رغم قسوتها وبشاعتها إلا أنها أحيانا تخرج من الإنسان أحسن ما فيه! وكان أحسن ما في محمد عبد الله عبقريته العقلية النادرة, أثبت بها أن القوة تكمن في الفكر, كان يملك قوة الفكر, واستطاع بما كان يملك من عقل أن ينتقل من آخر الصف إلي أوله, وأصبح يرجع إليه في كثير من الأحيان وفي أحرج المواقف, كما استطاع إنقاذ مئات الأرواح وعقد أجدي التحالفات, وعندما أتذكر ما فعله محمد عبد الله في اليمن وهو الرجل البسيط الذي جاءت به الأقدار كميكانيكي ملحق بالقوات فظهرت له عبقرية استطاع بها إنقاذ آلاف الأرواح, وغير في التكتيك من الفشل إلي النجاح, وكان أن نقلوه إلي سلك الضباط ومنحوه رتبة الرائد اعترافا بعبقريته, وكان من حظي أن التقيت بمحمد عبد الله فاكتفيت بالأيام التي عشتها بين الصاعقة البحرية, والتحقت بقبيلة الحدا التي كان يقودها محمد عبد الله. حبس قشلاق لمدة أسبوع خلعت البدلة العسكرية ولبست رداء الحدا, كان الرداء يختلف قليلا عن رداء المجموع, كان قفطانا أزرق يصل إلي القدمين, تحته رداء من قماش الساتان اللامع, وعلي رأسي عمامة كبيرة فيها نقوش وتمنطقت بالحزام العريض المزركش وفيه خنجر كبير المقبض ولأنني أضع نظارة علي عيني دخلت في تجربة لا يمكنني نسيانها عندما عاملني الناس علي أساس أنني أمير! كان اليمنيون مازالوا في القرن الرابع عشر! في مرة خرج علينا شيخ طاعن في السن من مضارب قبيلة كانت في الطريق واتجه مباشرة لي وفرد يديه وقال: بعنا الخناجر! وذلك إذا ما حدث ليمنيي القرن الرابع عشر يعني العار وفقدان الشرف والنزول إلي أحط ما يصل إليه الإنسان, كان الشيخ يستنجد بنا من قبيلة فرضت عليهم الخطاط منذ أربعين يوما! عندما خرج علينا الرجل الكهل يستنجد لم يكن قد سمع بالثورة لا هو ولا رجال الإمام الذين استسلموا لمحمد عبد الله! أثار ذهابنا إلي اليمن أنصار البقاء في القرن الرابع عشر, وزادوا وتجمعوا وحصلوا علي الدعم والسلاح وجاءهم المرتزقة من كل مكان! ولكننا أفلحنا بالاشتراك مع رجالات اليمن في إيقاف تدفق السيل, وإن كنا قد قدمنا الشهداء والأموال, إلا أن الحصيلة كانت خروج اليمن من دائرة القرن الرابع عشر! صحيح أننا تسرعنا, وكانت الحكمة تقتضي التفكير ودراسة حجم ونوعية وشكل المساعدة ونوعية الناس التي نقدمها لهم, ومعرفة طبيعة الأرض والمذاهب والطوائف ونظام القبائل وتقاليدها! وفي يوم منحوس اشتبك جندي من الكتيبة في عراك مع زميل له فعاقبوه ب حبس قشلاق لمدة أسبوع وهو يعني حرمانه من نزول صنعاء وزيارة سوق الملح للتسوق والجلوس علي المقهي وتدخين الشيشة والافتهان! وبعد يومين هرب الجندي ولجأ إلي القبيلة وارتمي أمام شيخها قائلا: أنا في وجهك ياشيخ, وهذا يعني أنه يستجير به, وحسب تقاليد القبائل الموروثة فإنها تستقبل من يستجير بها وتحميه ولا تسلمه مهما كان! وعندما طلبت الكتيبة من الشيخ إعادة الجندي اعتذر عن تسليمه وأمسك بلحيته وقالللضابط: وأين أذهب بوجهي بين القبائل؟! وكانت أزمة.. اتصلت الكتيبة بصنعاء, وصنعاء اتصلت بالقاهرة تطلب منها الرأي والمشورة وكان رد القاهرة قاسيا مع أمر باستعادة الجندي الهربان! وبين الأخذ والرد الذي كان قد استغرق شهورا حاول الجندي اللاجئ للقبيلة الاعتداء علي فتاة كانت تملأ المياه من بئر بعيدة بعض الشيء من مضارب القبيلة, وعندما صرخت أطبق علي عنقها ولم يتركها إلا بعد أن لفظت أنفاسها, وتمكن من الهرب واللجوء إلي الكتيبة! طلبت القبيلة من الكتيبة تسليم الجندي لها ومحاكمته بحضور ضابط يمثل الجيش ولكن الطلب لم يلق الموافقة! كان الجندي سجينا في الكتيبة تمهيدا لترحيله ومحاكمته, ولكن اليمنيين كانوا يشكون في أننا سوف نحاكمه وإنما نسعي لتهريبه أو علي الأقل سوف نصدر عليه حكما أقل مما يستحق! وبدأت القبيلة في حصار الكتيبة, كل سيارة كانت تخرج من الثكنة كانت تخضع للتفتيش, وأصبح الموقف بالغ الخطورة! وفي يوم جاءت طائرة أغارت علي القبيلة مرتين وقصفتها بالقنابل, الأمر الذي أدي إلي تدمير البيوت والمضارب, بالإضافة إلي عديد من القتلي والمجروحين, وهرب الباقي وتفرقوا بين القبائل, وبعد سبعة شهور وكنا في آخر رمضان, وزاد الحنين للوطن بين الضباط والجنود وتبادلوا الحديث والذكريات, وقبل أن يحل موعد آخر طعام إفطار, هجمت القبيلة علي الكتيبة واشتبكت معها في قتال انتهي بمأساة دفع فيها الجانبان العديد من الجرحي والقتلي! كان من غير الممكن أن يسمح جيش بتسليم أحد جنوده للآخرين مهما كانت جريمته! كما كان من المستحيل أن تترك القبيلة ثأرها من واحد قتل فردا من أفرادها خصوصا أنها كانت فتاة تدافع عن عرضها! ودائما ما أحن للأيام التي عشتها في اليمن, وأصبحت أستطيع تمييز اليمني من بين عشرات الجنسيات, فيه عراقة التاريخ وإذا ما توفرت لهذا الشعب الظروف الملائمة والانتصار علي بقايا الماضي سوف يضرب أبدع الأمثلة في تاريخ الإنسانية! ومهما كنا قد بذلنا ومهما دفعنا ومهما بلغ عدد شهدائنا وجرحانا وخسائرنا إلا أننا اشتركنا في إخراج اليمن من العزلة التي توقفت بها داخل دائرة القرن الرابع عشر, ولكل فعلأجر وثواب عند الله!