يطيب لأهل الطب دائما إحالة المريض إلي الطبيب المتخصص.. ولأن بلادنا الآن بكل أطيافها غارقة في بحار من المرض والاعتلال. فإن الأمل يكاد يكون معقودا علي الطب النفسي والعقلي كجهة حتمية واختصاص لا مفر منه لحالة بلادنا المرضية في هذا الزمان.. فالعطب موجود في المخ.. وكل مظاهر الاعتلال الحالية مصدرها خلل في العقل المصري.. والعلاج الوحيد الذي يراه أهل الطب الآن هو إحالة العقل المصري إلي الطبيب النفسي.. وما لم يصل الطب النفسي إلي أغوار النفس المصرية واستئصال ما يدمرها الآن من أهواء ومفاسد.. فإن حال البلاد والعباد سوف تبقي علي ما هي عليه لحين صدور حكم إلهي قد ينقذ الأمة من غفوة تعطل كل أشكال الحياة فوق أرضها الطيبة. حملت فوق أكتافي المتعبة آلامي وآلام بلادي.. وأبحرت في عالم النفس البشرية.. وتلقفني الغطاس البارع.. عالم النفس المعذبة د. أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي بعين شمس ورئيس الجمعية الطبية النفسية: يا طبيب النفس.. كيف الخلاص من حالات اليأس والإحباط التي تصيب البلاد والعباد بعد ثورة ناجحة.. وما التفسير النفسي والمرضي لحالة شعب مصر الآن؟ يجيب د. عكاشة: إن الشعب المصري قد فقد مفرحات النفوس الربانية, وهي المستقبلات العصبية التي خلقها الله في مخ الإنسان, وهي الأفيون والحشيش والمهدئات والمطمئنات وموصلات البهجة.. وقد أدي ذلك إلي إصابة الإنسان المصري بالإحباط واليأس.. وكلما قلت مفرحات النفس من شدة الإحباط, انتشر اليأس والاكتئاب والعجز وصولا إلي حالة اللامبالاة السائدة الآن, وهي أخطر مراحل الاكتئاب الوطني.. ولهذا السبب زاد الإدمان في مصر في المدة الأخيرة بسبب حالة اليأس والعجز, مما أدي إلي الالتجاء ل مفرحات النفوس الصناعية من مخدرات وغيره. غريزة القطيع ولكن ما تفسير الهمجية في السلوك التي تشهدها البلاد الآن؟ يوجد في الإنسان والحيوان ما يسمي المخ القديم, وهذا المخ به منصات الهمجية وإشباع الرغبات والتمركز حول الذات ولا يهمه إلا إشباع غريزة الطعام والشراب والقوة والسيطرة, وهو بعيد عن كل أخلاقيات القيم والحضارة.. ويختلف الإنسان بوجود الفص الأمامي في المخ, وهو المسئول عن الأخلاق والضمير والشهامة والرحمة.. وهذا الفص يعمل بكفاءة في ظل توافر القوانين والالتزام.. ولكن عندما يغيب القانون ويحدث الانفلات الأمني, يعمل المخ القديم دون رقيب, وهذا ما حدث لدي كثير من المصريين مع الانفلات الأمني, وأصبح كل فرد يعمل لنفسه وأسرته بغض النظر عما يحدث للآخرين.. وهذا ما حدث بالنسبة للذين يعملون بالعقل الجماعي أو ما يسمي غريزة القطيع, أي أنه يشبع ملذاته فقط. وهل سوف تبقي مصر بهذا الحال؟ إن هذا السلوك الحالي مجرد فترة انتقالية يعود بعدها الالتزام بالقانون والأمن ويعمل الفص الأمامي بكفاءة لإخماد شهوانية المخ القديم, وهذه ليست مسئولية الطبيب النفسي, ولكن هذا عمل صانع القرار السياسي. أين الخطأ؟ ماذا حدث من أخطاء أدت إلي كل هذا العجز في العقل المصري والاكتئاب الوطني؟ الخطأ الذي حدث في بدء الثورة أنه لم يوجد مسئول واحد يقول الحقيقة للشعب, بل بالعكس فقد خرج العديد من المسئولين في الحكومات المتتالية بعد الثورة يطرحون آمالا عريضة ووعودا بالرخاء وانتهاء كل متاعب الحياة والفقر وبالذات بعد إعادة الأموال المنهوبة والمهربة.. ولم يجد شعب مصر مسئولا واحدا يقول كما قال تشرشل للشعب الانجليزي خلال الحرب العالمية الثانية ليس هناك الا الدموع والدم والتضحية حتي ننتصر في هذه الحرب وهنا عرف الشعب حقيقة ما ينتظره من عذاب فتحمله راضيا.. وفي مصر وجد الشعب أن كل الوعود والأحلام قد تبخرت تماما ولم تعد الأموال المهربة والمنهوبة ولم تتغير الأحوال بل ساءت بقدر كبير..وهنا أصيب بالاحباط.. والاحباط يؤدي إلي العنف والقلق الاكتئاب وصولا إلي الأسوأ وهو اللامبالاة وعدم الاهتمام.. وهو أخطر ما يمكن ان يصيب الشعب والامة كما يراه الطب النفسي. كيف تقيم الانسان المصري سلوكيا واخلاقيا هذه الايام؟ نحن الان في غابة بشرية بها المتمترس حول الذات والبحث عن إرضاء الشهوات مع الانفلات الأمني والاخلاقي والاعلامي مما يجعل الأخلاق في أزمة.. وقد سبق أن قال الرئيس أوباما في كتابه شجاعة الأمل إن أي أمة لن تنهض بواسطة الاقتصاد أو العسكرية أو الثروة المعدنية بل تنهض الدول بأخلاق المواطن والاخلاق لا تورث ولكنها تنبع من المجتمع.. وإذا كان الذكاء يمكن أن يورث أو يولد الانسان ذكيا وهذه هبة من الله.. لكن السلوك دائما ما يتكون من التربية المجتمعية.. ولذلك تري الانسان المصري الذي يعاني من الانحراف السلوكي عندما يسافر إلي مجتمعات راقية فإنه يتحول الي ملتزم بكل قواعد وسلوك هذه المجتمعات. المصري غير جاهز للديمقراطية هل أصبح الانسان المصري جاهزا لتحمل تبعات الديمقراطية وممارستها؟ - لقد نجحت الثورة في إزالة حاجز الخوف من الحاكم. وتسييس المواطن المصري.. فالجميع يتكلمون في السياسة الآن ويهتمون بأمور الوطن.. ولكن مازال الوعي في مصر لا يفهم معني الديمقراطية.. لإن الشعب يعاني من30% أميةو12 مليونا يعيشون في العشوائيات ونسبة من يعيش تحت حد الفقر40% من سكان مصر واعتقد ان هؤلاء لا يهتمون بالديمقراطية أو الحكم ولكنهم يهتمون بلقمة العيش لهم ولابنائهم.. ومن المؤكد أن هؤلاء عندما ينتخبون رئيسا فإن ذلك سوف يكون علي أساس عاطفي أوديني وليس علي أساس ديمقراطي. إسهال لفظي وإمساك عقلي هل من تفسير لحالة اللغط واختلافات الرأي وضياع الرؤية الواحدة؟ - الحالة الطبية في مصر ويؤسفني أن أقولها هي إسهال لفظي وإمساك عقلي بمعني أن الكل يتكلم في الاعلام والحوارات في كل وسائل الاعلام.. ولكن مقابل ذلك امساك فكري وعقلي عن أي رؤية.. لا يوجد رؤية مستقبلية فكرية مقننة, سواء في التعليم أو الصحة أو الاقتصاد أو الخدمات التحتية, ولكن الساحة المصرية تشهد الآن كلام في كلام وأصبح المواطن المصري لا يعمل ويريد زيادة الراتب مقابل لا عمل. ويؤسفني أن كثيرا من التيارات الموجودة في مصر الآن لا تنتمي لمصر ولكن للجماعات التي ينتمون إليها سواء التيارات الاسلامية أو جبهة الانقاذ أو بعض من الثوار أومن ركبوا الموجة.. ولكن قد يكون الأمل في التعاون والمشاركة وتفضيل مصر علي الجماعة أو الفرد. كيف الخلاص كيف تري الخلاص من الضياع النفسي وموجة الفوضي التي تعم البلاد؟ - لابد من وجود القدوة مع قبول الرأي والرأي الآخر, وتمكين القانون والقضاء, والابتعاد عن الفساد, والاعتماد علي الكفاءة والمشاركة في الرأي هو أساس الحوكمة العادلة التي تبعث الأمل والصحة النفسية للمواطن المصري.. وهنا سوف تنتهي هوجة الفوضي وسوف يلتزم المصري بعمله وأمله خاصة إذا رأي الحلم يتحقق والغريب ان السيطرة علي الأمن أمر ممكن وحدث بالفعل عندما قامت القوات المسلحة والشرطة بتنظيم الانتخابات الرئاسية وغيرها.. ولم يحدث في أثنائها أي انفلات أمني أو أخلاقي.. إذا في استطاعة المسئولين عن الحوكمة أن يفرضوا الأمن ثم الاستقرار وهنا يعود الاستثمار والسياحة وتتحسن حالة المواطن ويبدأ الفص الامامي من المخ المصري في عمله من جديد.