تشكل السياسة الخارجية للدولة أحد أهم أدوات القوة الناعمة التي أصبحت الأداة الركيزة للتعبير عن الإرادة وإعلاء المصالح والتأثير علي سياسات الآخرين وتطويعها, في عالم متغير تحكم علاقاته وتوجه مساراتها ثورة تكنولوجية في المجالات كافة أحدثت تحولا جذريا في الثقافة والفكر وفي الطموحات والآليات. ليس فقط علي مستوي الأفراد والجماعات, بل أيضا فيما يتصل بالرؤي والأهداف الاستراتيجية للدول ووسائل تحقيقها. في هذا السياق, أرست السياسة الخارجية المصرية عبر عقود هي الأقدم في محيطها العربي والإقليمي, مبادئ وقيما وسلوكيات وقدرة علي الدفاع عن الحقوق والمصالح المشروعة, وكانت دوما الأقوي حجة والأشد صلابة في الدفاع عن السلم والأمن الدوليين ورفض تهديدهما. هذه السياسة أصابها قدر كبير من التراجع خلال الفترة الأخيرة وباتت فاقدة الثوابت; سلب منها دورها وضعفت قدرتها علي المبادرة واكتفت في الغالب برد الفعل, وتسير اليوم علي غير هدي. ثمة ارتباط عضوي بين جناحي السياسات العامة للدولة مفاده أن سياسات داخلية لا رؤية لها ولا تحكمها ثوابت, وأحوال متراجعة في المجالات كافة, كما هو حالنا اليوم, لا تفرز إلا هكذا سياسة خارجية مرتعشة وعاجزة عن التأثير.. لذلك بات من الأهمية بمكان وجود ثوابت واضحة لتلكم السياسات, تشكل المبادئ الحاكمة للسيادة الوطنية, تتصف بالاستمرارية والاستقرار النسبي, ومحصنة ضد النزعات الانفرادية, والشطط والعشوائية, أو متغيرات تداول السلطة واختلاف الشخوص, وتمثل, في الوقت ذاته, رؤية وأهدافا استراتيجية مقروءة وشفافة لعموم الأفراد ولجميع الدول, وتعكس صورة رادعة يصعب تجاهلها أو الاستهانة بها وتفرض حساباتها علي الغير. ولعل في مقدمة تلك الثوابت, خارجيا, تعظيم سيادة الأمة وإعلاء مصالحها وعدم التفريط في كرامة مواطنيها; عدم التدخل في الشئون الداخلية للغير; علاقات قوية ومتوازنة مع الدول العربية, مع إيلاء أهمية خاصة لدول مجلس التعاون الخليجي; الاهتمام بعلاقات مصر بدول القارة الافريقية, مع إيلاء أهمية خاصة لدول حوض النيل; علاقات متوازنة ومتكافئة مع الدول الكبري أساسها الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية; في هذا الصدد لابد لنا من ملاحظات وتساؤلات: إن تكرار اللقاءات المصرية الإيرانية والسفريات المتبادلة للرموز, أحدثها زيارة مبعوثين للرئيس المصري إلي جمهورية إيران الفارسية, أمر يثير الكثير من التوجس حول حقيقة التوجه المصري من تلك الدولة التي لاتزال تحتل, ومنذ عقود, ثلاث جزر عربية لدولة شقيقة حقا هي الإمارات العربية المتحدة, يعتز بها المصريون ويقدرون لها, قيادة وحكومة وشعبا, مواقفها الشجاعة ومبادراتها لدعم مصر وفي مواجهة الأزمات علي مدي تاريخ لا يتناساه إلا جاهل به أو ناكر جميل, في عدوان سافر علي الحقوق الجغرافية والتاريخية واستخفاف بكل القوانين والمواثيق الدولية; إيران التي جعلت من أرضها ملاذا للإرهابيين والقتلة; إيران التي تهدد الأمن الإقليمي والدولي من خلال تدخلها وبؤرها التي زرعتها في العراق وسوريا والجنوب اللبناني, وإيران التي تسعي إلي تصدير نظامها وتستهدف النيل من أنظمة الحكم العربية وبسط نفوذها في الإقليم.. هي عين الخطر علي الدين والدنيا معا.. ويعود المبعوثان لتعلن رئاسة الجمهورية المصرية موقفا استراتيجيا مغايرا من النظام السوري الذي يمارس منذ أكثر من عامين حرب إبادة ضد شعب شقيق كان يوما جزءا من الجمهورية العربية المتحدة! والتساؤلات هل من ثوابت السياسة الخارجية المصرية تعزيز احتلال الأراضي العربية؟ وهل من ثوابتها مد جسور مع أولئك الذين يعظمون ويخلدون قتلة رمز تاريخي وطني مصري متفرد حرر الأرض وفرض السلام, وزعزعتها مع دول عربية شقيقة ؟! ثم هل من الثوابت تعزيز فاشية نظام يقتل شعبه في سوريا؟ لقد بات مؤكدا الحاجة إلي سلوكيات حكم رشيد تتماذج مع الأمن القومي وترقي إلي متطلباته, وتتلاقي مع ثوابت متوافق عليها, معلنة وشفافة, للسياسات العامة. ونكتفي هنا بالإشارة إلي ما يلي: 1 حتمية التركيز علي المشهد الداخلي المتأزم بكل إفرازاته. ويستلزم ذلك بالضرورة الإقلال من ترف السفريات الخارجية وتغليب الاهتمام بالمتطلبات الأساسية لحياة شعب تتآكل لديه كل يوم شرعية الحكم المؤسسة علي الرضا. أوضاعنا اليوم متردية; انفلات أخلاقي وأمني; اقتصاد يتهاوي; هويتنا مهددة; وحدتنا ممزقة; خدمات متدنية; بنية أساسية متهالكة; فقر وأمية وبطالة; عز العيش الكريم; تخبط وعشوائية, وصوتنا هو الأضعف في تاريخنا, متحشرج ومهزوم. ماذا بقي لدينا لنتحدث عنه ونقدمه لنغري الآخرين به؟ 2 شفافية الحكم: الشعب يريد أن يعرف من قتل المصريين في شبه جزيرة سيناء; حقيقة الموقف من الأنفاق; مدي السيطرة علي الأمن في سيناء; حقيقة علاقة الحكم بإيران وحركة حماس, والموقف من سوريا وأمن مصر المائي والمصالحة الفلسطينية؟ 3 شفافية الحكم: ما حقيقة علاقة مصر بدول مجلس التعاون الخليجي؟ وهل من المعقول أو المصلحة أو المروءة التضحية بالعلاقات التاريخية المتميزة معها علي مدي عقود, وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة, لمصلحة فكر جماعة أو طموحات دولة بعينها؟ هذا, إذا كان الإنتماء والولاء لمصر, وأريد للحكم الرشادة لمصلحة عموم المصريين.. وإلا وجب علي المفلسين الرحيل.. لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى