يؤكد التاريخ أن الشعوب تتعلم من إخفاقها ربما بأكثر مما تتعلم من نجاحها. صحيح أن التعلم يحتاج الي وعي وإرادة لكن تبقي الملاحظة في أساسها صحيحة. والحاصل أننا نخوض منذ عامين سلسلة متصلة من الإخفاقات والتجارب غير المكتملة. هذه في ذاتها فرصة لأن نستفيد ونتعلم. ليس في هذا ما يعيب. المشكلة هي في اعتقادنا غير الناضج أنه بوسعنا إقامة المجتمع الحديث والدولة الديمقراطية بين يوم وليلة. هكذا بدون أخطاء. نحن بذلك نقفز علي منطق التاريخ. من هذا الحالم الذي كان يتوقع ان تأتي له الثورة من أول مرة بديمقراطية علي الطريقة السويدية مثلا؟ماذا يضيرنا لو اعتبرنا أن كل ما حدث في العامين الفائتين هو تجارب وأخطاء وإخفاقات علينا أن نتعلم منها؟ فنحن شعب غضب علي واقعه المتردي ثم قرر أن يمضي علي الطريق الموصل إلي مجتمع حديث ودولة ديمقراطية. لكنه مجرد طريق. وفي الطرق منحدرات وعثرات وضباب وقطاع طرق. ها نحن نكتشف بعد عامين ان هناك فارقا بين غضب الشعب مهما كان نبيلا وهادرا وبين جاهزيته الثقافية والاجتماعية لأن يبني مجتمعا حديثا ودولة ديمقراطية. الآن يتأكد لدينا أننا مجتمع مدهش حتي في تناقضاته. فالملايين التي احتشدت يوما ما في ميادين مصر وتجاسرت وتضامنت وتلاحمت وتسامت هي نفسها الملايين التي اختلفت وتنابذت وتشرذمت وتقاتلت. هذا درس يدعونا للتساؤل هل كان ذلك بفعل القوي المضادة للثورة فقط أم لأن ثورة يناير نفسها كانت متجاوزة لوعي الشعب المصري؟ لنعترف أننا شعب كان غضبه أكبر من وعيه. وحين يصبح الغضب أكبر من الوعي فإنه يتحول الي قوة تدمير ذاتي. وشيء من هذا يحدث في مصر اليوم. أحد أخطاء العامين الماضيين أن هناك دروسا ديمقراطية بديهية اعتبر المصريون أنهم أكبر من أن يتعلموها. لم نتعلم مثلا أن الاحتكام الي الإرادة الشعبية يوجب قبولها كما هي. فليست هناك ديمقراطية موصوفة أو مشروطة بالوعي أو التعلم أو الرقي الاجتماعي. لا أحد ينكر أن الديمقراطية التي تنتجها جماهير واعية متعلمة تختصر مسافات التحول ومراحل التحديث لكن لدينا واقعا لا يجدي التبرؤ منه. فالاعتقاد بأن الامية والفقر والجهل هي أسباب لانحطاط ديمقراطي لا يعفينا من المسئولية. فهذا مجتمعنا وهذا ما آل اليه واقعنا عبر عقود من الجفاف السياسي والتدهور التعليمي والتخلف الثقافي. فمعظمنا مسئول عن إنتاج هذا الواقع بالمشاركة الفعلية أو التواطؤ أو السلبية باستثناء الذين قبعوا في السجون أو قالوا كلمة حق في وجه سلطان جائر. ما زلنا نحتاج لأن نكتشف ان الخطر الأكبر المتربص بنا هو رخاوة الدولة وتشرذم المجتمع. فالدولة الرخوة تتقدم خطوة وتتراجع خطوتين. والمجتمع المتشرذم لا يصنع وفاقا وطنيا ولو طال الزمن. الدولة الرخوة تحتاج لقدر كبير من الحسم والمجتمع المتشرذم يحتاج لقدر أكبر من المصالحة. لكن كيف السبيل؟ نحتاج أيضا لأن نتعلم ما حدث لجهاز الشرطة قبل وأثناء وبعد ثورة يناير. ففي كل مرحلة كانت أزمة الشرطة تأخذ تشخيصا مختلفا لكن جوهر الأزمة ما زال قائما. ولم نحاول بعد اقتباس التجارب الناجحة في دول شرق أوروبا لإصلاح جهاز الشرطة وتغيير فلسفته الأمنية وإعادة الثقة الي رجاله. هنا نحتاج لأن نتذكر ان نصف إنجاز الثورة كان في إزاحة نظام مستبد فاسد لكن النصف الآخر من الإنجاز لم يتحقق بعد. فالثورة لن تستحق اسمها إلا إذا قمنا بثورات إصلاحية جذرية وعميقة في كل مؤسسات الدولة. ونحن ما زلنا بعيدين عن هذا. فالتعليم الذي كان انحطاطه سببا في كل ما جري ما زال يحتاج الي ثورة إصلاحية. والقضاء يحتاج الي قانون يكفل ليس فقط استقلاله بل تحديثه أيضا. خطأ آخر لم نتعلم منه هو خطورة التصريحات والفتاوي الدينية التي تنهمر علي رؤوسنا فتزيد المجتمع بلبلة وتشرذما. كان آخرها فتوي تكفير وفي قول آخر تحريم تهنئة الإخوة الأقباط بعيد القيامة. هذه تصريحات وفتاوي تخلط أولويات الوطن وتوقظ الفتن وتثير قلق وفزع المسلمين قبل الأقباط. ويا أيها العالم الجليل د. عبد الرحمن البر: كن بارا بالأقباط إن كنت تؤمن بالثورة وخير الوطن. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم