ربما كانت الكتب التي تحكي حكايات الاكتشافات الجغرافية والخرائط والوثائق التي تخص مصر وحوض النيل.. هي الكتب الأكثر أهمية ضمن المقتنيات النادرة للمجمع العلمي والجمعية الجغرافية. نقول ربما لاننا نجتهد وهذا في النهاية مجرد رأي حيث انه يصعب في الحقيقة تقدير الخسائر التي يتكبدها بر مصر عند تقيمنا لما جناه الحريق الذي دمر المجمع العلمي بعد عمر طويل في خدمة الثقافة والعلوم تجاوز المائتي عام. أما ما نعرفه يقينا أن أفضل الكتب هي التي تعكس ما قدمته الصورة الحقيقية للدولة المصرية المتحضرة منذ عهد محمد علي الكبير وحتي نهاية زمن الملك فؤاد. وهذا الكتاب الموسوعي' رحلات لاكتشاف منابع النيل في عام1773,1772,1770,1769,1768 قد صدر في لندن عام1804 في ستة مجلدات, وقد جسد الخبرة الاستكشافية لكاتبه الرحالة جيمس بروس الذي ولد عام1730 وتوفي عام1794 وهو ما يعني أنه قد قام برحلاته في أفريقيا في صدر الشباب وان هذا الكتاب الموسوعي قد صدرت طبعته الاولي بعد عشر سنوات من وفاته. أما سبب شهرة بروس فتعود إلي انه أول أوروبي قام بحملة استكشافية للوصول إلي منابع النيل وهي حملة لم تحقق الكثير من النجاحات الا انها كانت الباب الذي دخل منه عشرات الرحالة فيما بعد في العصر الذهبي للدولة المصرية في زمن الخديو إسماعيل صاحب الكشوفات الجغرافية في أفريقيا. وقد بدأت رحلة بروس من الاسكندرية, وكان من أوائل من كتبوا عن الارتباط بين النيل الابيض والنيل الازرق. وفي بداية الموسوعة التي نختار أن نبحر مع جزئها الأول يقول جيمس بروس في الافتتاحية ان هناك الكثير من الفوائد من معرفتنا بالامم الأخري التي تعيش علي وجه الأرض. كما ان الوصول إلي منابع النيل موضوع يهم كل الامم التي تهتم بالتعليم. فمن خلال نهضة التعليم والفنون والاندهاش بكل ما يحيط بالانسان من طبيعة ولدت هذه الرغبة وتأججت وان كانت كل محاولات التعلم تواجه بالصعاب. أما بداية الرحلة فتعود إلي مرحلة مهمة من حياة بروس الذي كان عائدا للتو من رحلة حول أوربا ضمت أسبانيا والبرتغال وكانتا في هذا الوقت علي وشك الدخول في معضلات الحروب, ووقتها علم ان هناك مهمة خاصة لابد من القيام بها. وبعد فترة غير مجدية من الراحة والكسل لمدة سبع أو ثمان أشهر في لندن كان موضوع اكتشاف منابع النيل قد أصبح متداولا. وكان بروس وقتها أيضا يعتبر محبا للرسم والرياضيات والفلك ويريد ان يضع نفسه ضمن أصحاب المهام العلمية أو لعله شعور انتابه وهو يكتب عن رحلاته التي قام بها في أفريقيا أرضنا البكر التي كانت هدف علي مر تاريخها لأكثر من شخص وبلد وطموح. وبالفعل أبحر بروس إلي إيطاليا عبر فرنسا رغم وجود عراقيل السياسة والحروب. ويذكر بروس بعض الشخصيات التي ألتقي بها ومنهم شالجرين الطالب الفرنسي الشاب الذي يدرس العمارة, كما يتوقف عند بعض الكتب التي أراد ان يقرأها. وقد وجد بروس الكثير من المخطوطات والكتابات العربية, ففي أوروبا يوجد عدد محدود من هذه الكتب المطبوعة التي يوجد معظمها في هولندا. فقد كان معرفة هذه اللغة مطلوب قبل الذهاب إلي أفريقيا. وخلال عام عاشه بروس في الجزائر تعرف علي مفردات العربية حتي يستطيع التحرك دون الحاجة إلي مترجم وخاصة أن هناك رأي يقول ان إتقان أي لغة شرقية يمكنه فيما بعد من تعلم اللغة التي يتحدث بها أهل أثيوبيا' الحبشة'. ويحكي بروس عن تونسوالجزائر وكيف تشتهر تونس باصطياد الاسماك وكيف تبدو الحكومة في الجزائر من أكثر الحكومات اعتدالا الا ان المناخ الحار يسيطر علي كثير من الايام الصيفية علي الجزائر التي تحصل علي المياه الصالحة للشرب من العيون. ويكتب بروس عن منطقة بين تونسوالجزائر مسكونة بالقبائل العربية ويحدد قوانينها شيخ القبيلة وهي بطبيعة الحال لاتنتمي إلي تونس أو الجزائر. وهم فرسان يعيشون علي لحوم الاسود ويتفوقون في صيدها علي الصيادين الأكفاء. وفي العشرين من يونيو وفي الصباح الباكر يصل بروس إلي وجهته بالاسكندرية التي بدت من البحر وكأنها مجال رحب لأي باحث معماري يريد أن يدرس و يعمل. فالاسكندرية للوهلة الأولي تبدو توليفة من الآثار القديمة, كما توجد في هذه المدينة مينائين: ميناء قديم وميناء جديد. والأخير مدخله صعب وخطير. ومع هذا تتفاعل الامم المختلفة مع الميناء بأشكال مختلفة. فعناك من يعتمد علي المراكب الصغيرة لوصول البحارة إلي الشاطئ تاركين السفن الضخمة تحت رحمة الرياح, ومنهم من يرفض هذا الاسلوب ويعتمد علي سفن قوية. ويقال أن الاسكندر الأكبر قد انبهر بجمال المكان. فمصر هبة النيل وقد حفر البطالمة قناة وهي السبب في إعمار المدينة بهذا الشكل. ويتحدث بروس عن قبر الاسكندر الأكبر بوصفه أحد معالم المدينة. وهناك رحالة يقولون انهم رأوه رآي العين وهو منزل صغير في وسط المدينة قريبا من كنيسة سان مارك. وقد حفظ الجثمان في صندوق زجاجي, والجميع يتكلمون عنه باحترام وحتي المسلمين الذين يعتبرونه ملكا عظيما.ولكن لا شئ يسر بالاسكندرية وان كان يوجد شارع يضم مبان حديثة حيث يعيش الكثير من التجار. وأما رشيد فقد كان الخطوة التالية والرحلة إليها غالبا ما تكون برية حيث ان فرع النيل الذي يحمل إليها غالبا ما يكون ضحلا ولهذا لا مفر من الطريق البري. ورشيد بلد كبيرة ونظيفة وتملك الكثير من الحدائق وهي تتمتع بحرية كبيرة علي غير حال القاهرةوالاسكندرية. أما القاهرة فيوجد بها كل الامم والجزء الذي يعيش فيه الفرنسيون يصلح للراحة ويتكون من شارع طويل وهو مغلق من جانب ببوابات ضخمة وعلي الجانب الأخر حديقة ضخمة ومشايات ومقاعد وثيرة. والحكومة في القاهرة تتكون من أربع وعشرين بك لم يكن موجودا منهم سوي سبعة فقط ولهم قوة هائلة والعدالة تنفذ علي طريقتهم ولكي يكون المرءبك لابد ان يكون في البداية مملوكا.. وفي الفترة التي كانت الدولة العثمانية تنهي قصتها, كان علي بك ومحمد بك أبوالدهب, هما أشهر بكوات مصر, ويقرر بروس وقتها ان يبحث عن مركب يقله إلي فرشوط مقر الشيخ همام شيخ الصعيد. وفي الصعيد تبدأ الرحلة الحقيقية مع أطلال مدينة منف وقصب السكر وهدايا البلح وبني سويف التي يبدو أهلها أفضل حالا من بعض من يسكنون القاهرة..لقطات تشبه عين الكاميرا وذكريات أعز من أن تضيع.. فما عرضناه كانت أول رحلة استكشاف في زمن علي بك الكبير الذي أراد الانفصال بمصر كما فعل محمد علي باشا بعده بسنوات ولكن ماذا عن أفريقيا فهذه حقيقة رحلة بروس وحقيقة كنوز المجمع العلمي والجمعية الجغرافية, وخاصة أن أول رئيس للجمعية الجغرافية كان من الرحالة الذين ذهبوا إلي إفريقيا.