لم يحدث في عمري الذي يناهز الستين أن مدحت مسئولا أو مديرا أو قائدا عسكريا( أثناء خدمتي العسكرية كضابط احتياط). فقط أجبرني نظام ناصر, استغلالا لطفولتي, أن أنشد في طابور الصباح بمدرستي الابتدائية: ناصر كلنا بنحبك... ناصر وهانفضل جنبك... ناصر يا حبيب الكل يا ناصر. كنا قبل هذا النفاق ننشد: الله أكبر فوق كيد المعتدي والله للمظلوم خير مؤيد. أنا باليقين وبالسلاح سأفتدي بلدي ونور الحق يستطع في يدي. اكتشفت في سن الصبا أن ناصر لم يكن حبيب الكل. علي الأقل الشيوعيون والإخوان والرأسمالية المصرية لم يحبوه. لقد علمونا أطفالا أن نكذب وننافق مبكرا. في مرحلة الشباب أصبحت ككثيرين ممن عاد إليهم الوعي أقرب إلي المعارضة, سواء في عهد ناصر أو السادات وأخيرا المخلوع. اضطررت إلي هجرة قسرية بحثا عن الرزق الذي حوربت فيه في بلدي وإن أقل بكثير من غيري. ساقتني الأقدار إلي قطر, وظل قلبي معلقا بالمحروسة ككل أهلها المغتربين. عقدة الشك في كل الحكام العرب ومعارضتهم لم تفارقني طيلة سني الغربة في قطر, وقد عايشت هناك زملاء الشتات الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والليبيين والتوانسة والسودانيين والجزائريين وغيرهم. لا أستحي بعد هذه المقدمة أن أكتب مقالا يمتدح حاكما عربيا, فأتخلص لأول مرة من عقدة الشك فيهم جميعا. أمير قطر هو صاحب فضل فك عقدتي السياسية تلك. لقد عاصرت, صبيا وشابا وشيخا, كل حكام العرب منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي إلي الساعة, فلم أجد منهم من أحسن إلي أهل بلده وأمته والدوائر المحيطة بها, مثل أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثان. درست وبحثت وتابعت معظم خطب وأفعال حكام كثيرين في منطقتنا فلم أر له منافسا في فضيلة الصمت, والصمت حكمة, في حين ظل الرجل صاحب عطاء ومروءة وجرأة. وبحكم مهنتي كإعلامي مستقل أمضي في المهنة نحو خمسة وثلاثين عاما, لم أجد حاكما عربيا واحدا مثله أنزل الصحفيين والإعلاميين المهنيين منازلهم, ولم يتدخل لا بنفسه ولا بأحد من بطانته أو وزرائه في عملهم. قدر الله لي العمل في قناة الجزيرة والعيش في قطر في السنوات من بداية2001 حتي منتصف2011, فشهدت عن كثب ما أسداه أمير قطر وحكومته إلي شعوب العالم متمثلة في منظمة الأممالمتحدة وغيرها من المنظمات المتخصصة والإقليمية والحقوقية. وغطيت وتابعت كل المؤتمرات الدولية والإقليمية التي استضافتها قطر طيلة السنوات العشر التي عشتها هناك. واقتربت من الأمير وبعض أفراد أسرته أثناء حضورهم بعض المؤتمرات المذكورة وزياراتهم لمبني الجزيرة في العاصمة الجميلة الدوحة. وأثناء ذلك كله كان الرجل حريصا علي التباسط والتضاحك مع جميع الإعلاميين والتقنيين بحيث كان كل منا يشعر بأنه صديق قديم لهذا الأمير الإنسان. وأشهد الله أنني ككثيرين من زملاء المهنة العرب والأجانب أحببنا هذا الرجل وأسرته لتواضعهم ومروءتهم وكرمهم وأدبهم وحسن سياستهم الداخلية والخارجية. لم تترك القيادة القطرية أزمة أو كارثة أو ملمة مما تعرضت له شعوب العرب والمسلمين وغير المسلمين إلا وكانت لها إسهامات مادية وعينية معتبرة. ولم يحدث أن مارست الدولة القطرية أي تمييز عنصري علي من يقيمون فيها من جاليات عربية وأجنبية. وأزيد بأن كثيرين جدا وجدوا في قطر مالم يجدوه في أوطانهم من حقوق إنسانية كالعلاج والتعليم المجاني والسكن المريح, والتعامل الراقي من كل سلطات الحكومة, بدءا من الشرطة إلي جميع المصالح الحكومية. وعايشت ورأيت ما فعله الأمير لاستنقاذ وتعويض زملاء المهنة وأسرهم في الجزيرة وغيرها من المعتدين عليهم في أفغانستان وباكستان والصومال والعراق وليبيا وسوريا وتونس. وإن أنسي لا أنسي أسماء مثل تيسير علوني وطارق أيوب وسامي الحاج وأطوار بهجت وغيرهم. جمعت قطر تحت قيادة الشيخ حمد بن خليفة آل ثان كل الفرقاء الفلسطينيين واللبنانيين والسودانيين لإصلاح ذات البين. وكان أمير قطر الوحيد من الحكام العرب الذي زار الجنوب اللبناني عقب الغزو الإسرائيلي الإجرامي. كما زار دون كل نظرائه العرب قطاع غزة المحاصر. وقد لمست ما فعله الأمير شخصيا لاستضافة لاجئين وساسة عربا وغير عرب في بلده, بكرم وأريحية لا نظير لهما. ولقد شهدت بأم العين, كغيري من المصريين, كيف كانت قطر والجزيرة عونا وشريكا لثوار مصر إعلاميا في أثناء الثورة وبعد نجاحها, ثم ضخ نحو ثمانية مليارات دولار لخدمة اقتصادنا, بعد فوز الرئيس محمد مرسي, وحتي اليوم. وعلي العكس أدركت وأيقنت عن كثب كيف يهدر بعض حكام الخليج النفطي كرامتهم وكرامة شعوبهم, وأخيرا حق الشقيقة الكبري مصر عليهم بعد ثورة شعبها علي الظلم والطاغية. وختاما: أنقل ما كتبته ذات يوم في مدونتي المتواضعة, إثر متابعتي في الدوحة, واحدا من مئات المؤتمرات الدولية الكبري: عندما تستثمر دولة أموالا طائلة من ميزانيتها في البحث عن أفكار تستهدف تحقيق الخير لكل البشر, وعندما تجند دولة باحثين كبارا من نحو تسعين دولة في العالم ليقدموا حلولا قابلة للتطبيق لمشكلات البشرية. وعندما يستغرق إعداد تلك البحوث عاما كاملا, وفي مجالات شتي مما يتعلق بحياة الناس. وعندما تستضيف هذه الدولة مؤتمرا يحضره ليس فقط هؤلاء العلماء الباحثون الذين درسوا وأعدوا التوصيات, بل أيضا عدد من الزعماء والمفكرين الكبار, وعندما تقتنع منظمة اقتصادية سياسية عالمية بأن تشارك بخبراتها الإدارية المؤتمراتية في تنظيم مؤتمر عنوانه إعادة صياغة العالم يومي30 و31 مايو.2010 وعندما تكون حكومات كثير من الدول العربية إما مشغولة بقمع شعوبها أو نهب وتبديد ثروات تلك الشعوب أو في النزاعات والصراعات الداخلية, وعندما تكون قطر هي الدولة صاحبة هذه الفكرة والمضيفة لهذا المؤتمر أجدني بالأصالة عن نفسي ونيابة عن كل إنسان شريف علي أرض البسيطة أقول بملء الفم: شكرا حكيم العرب أمير قطر الشيخ حمد بن خليفه آل ثان. جزاكم الله خيرا وبارك فيكم. وشكرا حكومة وشعب قطر.. أدام الله نعمه عليكم وحفظ أميركم. لمزيد من مقالات حازم غراب