بدأت أمس الأول إعادة محاكمة مبارك ونجليه وقيادات الداخلية, تلك التي وصفت في المرة الأولي بمحاكمة القرن. بيد أن إطلالة مبارك هذه المرة جاءت مختلفة تماما عن أولي جلسات محاكمته السابقة فقبل عشرين شهرا دخل مبارك محراب العدالة راقدا متمارضا متمسكنا, يتواري من الكاميرات ويحاول نجلاه إخفاءه عن الأعين. أما في جلسة أمس الأول فقد دلف إلي قاعة المحكمة جالسا متأنقا مزهوا بجسده المعافي وبإعادة المحاكمة. وكان تلويحه المستمر بيده, كأنه تذكير للمصريين بتحيته للمصفقين والمهللين عندما كان حاكما. وبعد أن كان وجهه في الثالث من أغسطس2011 منكسرا مهانا, ارتسمت علي ذات الوجه في الثالث عشر من أبريل2013 ابتسامة انتصار وثقة. مبارك المحكوم بالسجن المؤبد ربع قرن, المتهم بالتورط في قتل متظاهري الثورة بالسكوت عن الجريمة وليس بالمشاركة الفعلية في تنفيذها. أما المتهمون الأصليون في الجريمة ذاتها فقد حصلوا جميعا ودون استثناء علي البراءة. ربما كانت تلك المفارقة أحد أسباب تفاؤل مبارك والمتهمين معه, خاصة بعد أن شملت البراءة أيضا كل متهمي قضية موقعة الجمل سواء بالتدبير أو التمويل أو التنفيذ. تلك الأريحية التي ظهر بها مبارك وشاركه فيها ابناه خصوصا جمال, يبدو أنها تتعدي النطاق الشخصي وتتجاوز حدود التفاؤل أو الاطمئنان إلي الموقف القانوني في القضية. تماما كما كان التوتر والتواري في المحاكمة الأولي يجسد شعور الإهانة والأسي أكثر من القلق علي المسار القانوني للقضية. إن تطور حالة مبارك يتوازي عكسيا مع تراجع أحوال المصريين. والمقارنة بين التطلع إلي السماء مستلقيا مضطربا, والتجول في القاعة بنظارة شمسية مبتسما, تلخص ما جري في مصر ولمصر خلال الفترة بين المحاكمتين. وفي هذا علامة خطر ونذير سوء لمستقبل الثورة المصرية. فمبارك أصبح ينتظر البراءة بعد أن كان مهددا بالإعدام, ورجاله جميعا إما في بيوتهم أو في الطريق إليها. وقوانينه ومؤسساته وآليات عمل نظامه لا تزال قائمة. وشبكات الفساد والمصالح التي تكونت في عهده تنتقم من المصريين بشراسة خاصة من لا يزال يؤمن منهم بالثورة أو يتمسك بالتغيير. بذور ذلك الوضع المعكوس بدأت في اليوم التالي لخلع مبارك, بتسامح بل تهاون المجلس العسكري في حق المصريين شهداء وأحياء, وحفاظه علي مفاصل النظام المباركي بقوتها وعنفوانها. ولم يكن خلفاؤه أقل تهاونا, فدخلت مصر في سلسلة انقسامات وصراعات علي السلطة ومؤسسات الحكم. وليس حول خطوات أو وسائل إسقاط نظام مبارك ذلك الهدف الأسمي للثورة والذي كان يفترض أن يلتف الجميع حوله أو حتي يختلفوا حول سبل تحقيقه. ولو أن رفاق الثورة والملتحقين بها انشغلوا بتصفية وتفكيك أو حتي تحجيم وتحييد نظام مبارك فعلا لا قولا وكليا لا جزئيا, بدلا من الهدم والرجم المتبادل, لما دخلت خيام آسفين ياريس إلي الميدان, ولما استعاد إعلاميو مبارك الشاشات والمانشيتات ليدافعوا فيها عن شخصيات ورموز من نظامه. بعضها مسئول سياسيا وقانونيا عما آلت إليه المحاكمات من مسار محبط, حتي صار مبارك( المحكوم بالمؤبد) في تلك الحالة من السعادة والأريحية. علي شركاء الثورة فورا وقف تلك السلسلة المتصلة من معارك قضائية وسياسية وإعلامية تهدم الثورة وتخدم أعداءها. ربما هناك من أجبر علي خوض تلك المعارك الجانبية بنية مخلصة للحفاظ علي الثورة, أو ابتغاء وجه مصر وليس حكم مصر, إلا أن ابتسامة مبارك الساخرة لم تفرق بين من كان مشغولا بمصر ومن انشغل عنها, وبالفعل ما يسجله التاريخ هو النهايات وليس النيات. لمزيد من مقالات سامح راشد