أنظمة الديمقراطيات الناضجة لا تعرف منطق التبرير فالمنصب السياسي ليس أداة للوقاية من المساءلة والكل سواء أمام القانون.. هكذا هو المشهد في فرنسا بعدما اعترف وزير المالية الفرنسي المستقيل جيروم كاهوزاك بتورطه في عمليات احتيال علي سلطات الضرائب الفرنسية بعد شهور من الإنكار الشديد بل وأقر بامتلاكه حسابا مصرفيا في سويسرا في محاوله للتهرب الضريبي وغسيل الأموال, الأمر الذي أحدث زلزالا سياسيا في فرنسا من العيار الثقيل في واحدة من أقوي فضائح الفساد التي حدثت في تاريخ فرنسا الحديثة ورسمت وصمة عار علي جبين الحكومة الاشتراكية الفرنسية. وكان اعتراف كاهوزاك بمثابة قنبلة سياسية وأخلاقية انفجرت في أركان النظام الفرنسي والطبقة السياسية في الوقت الذي تراجعت فيه شعبية حكومة الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند, واعترف جيروم كاهوزاك الرئيس السابق للجنة المالية في الجمعية الوطنية, وهو جراح سابق, بأنه كذب علي الرئيس ورئيس الوزراء والحكومة والبرلمان وعدد من وسائل الإعلام عندما نفي صلته بحساب سويسرا, وردد كاهوزاك مرارا أمام أعضاء الجمعية الوطنية والإعلام الفرنسي انه لا علم لديه بوجود هذا حساب, داعيا القضاء الفرنسي إلي التحقيق في ذلك. لكن بعد فترة من الكذب والتلاعب مع المؤسسات, تراجع كاهوزاك عن أقواله وقرر الاعتراف أمام القضاء بوجود حساب مصرفي في سويسرا يبلغ600 ألف يورو, وأثارت قضية كاهوزاك صدمة شديدة لدي شركائه السياسيين الذين نددوا بخيانته, وأثارت أيضا في المعارضة نداءات إلي استقالة أعضاء آخرين في الحكومة, حيث زعزع تورط كاهوزاك في فضيحة فساد الثقة في قيادات الحكومة الاشتراكية وأضعف من مصداقية حكومة أولاند. ولم يمنع القضاء منصب الوزير من مساءلة كاهوزاك وأعلن القضاء ملاحقتة بتهمة غسيل الأموال والتهرب الضريبي, الأمر الذي قد يكلفه عقوبة بالسجن والغرامة. وعلت الندءات من داخل صفوف المعارضة في فرنسا لتندد بحكومة الرئيس أولاند ورئيس وزرائه جا مارك ايرولت متهمين إياهم بالتواطوء والتستر علي الفساد أو الإهمال السياسي اذ لم يكونوا علي دراية أصلا بتلاعب كاهوزاك طوال الأشهر الماضية. وجاء النقد اللاذع من اليمين المعارض الذي اعتبر أن عرش أولاند يواجه هزة سياسية أودت ب الجمهورية المثالية التي يتغني بها إلي الهاوية, وطالب جان فرانسوا كوبيه رئيس حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية بالذهاب بعيدا في التحقيقات مشيرا إلي أن فرانسوا أولاند إما لم يكن يعلم بهذا الموضوع وهذا يعتبر أمرا خطيرا جدا أو كان علي علم وكتم الخبر وهذا يعني أنه كذب علي كل الفرنسيين. وتري بعض الآراء من صفوف المعارضة أن الحزب الاشتراكي يعيش نوعا من الإفلاس الأخلاقي فهو من جهة ينتقد أداء الآخرين ويعطي دروسا في النزاهة والأخلاق لكن من جهة أخري يتصرف بشكل مخالف ولا يطبق تلك الدروس علي نفسه. وكان نواب أحزاب اليمين واليسار المتطرف المعارضين قد شددوا الخناق علي حكومة جان مارك ايرولت, فدعت مارين لوبان, زعيمة الجبهة الوطنية الحكومة إلي الاستقالة وإلي حل الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات تشريعية جديدة. وقالت لوبان: أعتقد أن رئيسي الجمهورية والحكومة كانا علي علم بهذه القضية منذ عدة شهور وربما أيضا كان الرئيس السابق نيكولا ساركوزي يدرك ذلك منذ سنوات, لكن رغم كل هذا لقد تم تعيين جيروم كاهوزاك رئيسا للجنة المالية في الجمعية الوطنية. وتوالت ردود الأفعال علي فضيحة كاهوزاك حيث تصدرت الفضيحة عناوين الصحف العالمية, وتحدثت صحيفة الديلي تلجراف البريطانية عن واحدة من أسوأ الفضائح في تاريخ فرنسا الحديث, بينما رأت الجارديان أنه من الصعب تصور فضيحة أسوأ من هذه للحكومة الاشتراكية في فرنسا. وكتبت صحيفة البايس الإسبانية علي موقعها الإلكتروني أن اعتراف الوزير السابق بوجود حساب سري له في سويسرا وما ينتج عن ذلك من شبهات بشأن حصوله علي احتيال ضريبي وتبييض أموال سببت زلزالا سياسيا حقيقيا في فرنسا. وفي ألمانيا, كتبت صحيفة فرانكفورتر المحافظة أن الفرنسيين باتوا أمام أزمة سياسية تقوض ما تبقي من ثقتهم في قادتهم. وفي الصحف البلجيكية الصادرة بالفرنسية كتبت صحيفة' لوسوارعلي موقعها الإلكتروني أن' قضية كاهوزاك تزيد من ضعف أولاند. ويعيش كاهوزاك في وضع نفسي حرج وحالة صمت تام بعد أن كذب علي الحكومة وعلي أسرته, لكن ما يقلل من بشاعة موقفه هو أنه اعترف للقضاء بالجريمة وقدم استقالته من الحكومة, فلم يمنعه منصبه أيضا كوزير من التمادي في مسلسل الكذب والاحتيال.