ظل الاعتقاد راسخا بأن الجيوش هي المؤسسات الأكثر قدرة علي القيام بالثورات وقيادة الانقلابات والإطاحة بالحكام, إلي أن تغير هذا الإدراك, وأضحت الشعوب قادرة علي أن تقود الثورات وتطيح بالحكام أيضا, وهو تغير جذري في آليات انتقال السلطة في مصر والعالم العربي, فلأول مرة تخرج الشعوب في مظاهرات سلمية, وبلا قيادة موحدة, وتتجمع حول هدف وحيد وهو إسقاط النظام القائم وتغييره بالوسائل السلمية, ونجحت الشعوب بالفعل في إسقاط أنظمة بدت وأنها قوية وراسخة أمام الإصرار علي الرحيل بعد فشلها في تحقيق الحد الأدني من متطلبات التنمية السياسية والاقتصادية. وإذا كانت مصر قبل الثورة قد فشلت في تقديم ما يمكن تسميته الحل الأمثل لقضية التداول السلمي للسلطة, ولم تتمكن من دعم وإرساء قواعد مقررة وآليات واضحة وأشكال وقنوات مؤسسية مقبولة ومعترف بها لشغل فراغ أو تداول السلطة العليا فيها, فإنها عقب الثورة تسعي إلي تعميق آلية التداول السلمي للسلطة ليس فقط علي مستوي رأس النظام, ولكن أيضا علي مختلف المستويات الأخري بدءا بإعمال الانتخابات لاختيار القيادات في الجامعات, والنقابات المهنية, والأحزاب السياسية. وهي آلية فاعلة تعد أحد مكتسبات ثورة الخامس والعشرين من يناير وتحتاج إلي مزيد من الجهد والممارسة رغم التحديات التي تواجهها حتي تتجذر كواقع يسهم علي المدي البعيد في اختيار أفضل العناصر لقيادة الدولة والمجتمع علي حد سواء. وإذا كان التداول السلمي للسلطة يمثل جوهر الديمقراطية, فإنه يفترض وجود أربع ركائز أساسية تشكل مقومات الانتقال الآمن للسلطة في مصر: تتمثل الأولي في وجود نصوص وقواعد قانونية ثابتة تحكم عملية انتقال السلطة,من خلال أطر دستورية واضحة; فالدستور بمثابة العقد الاجتماعي ما بين الحاكم والمحكومين يكفل تنظيم العلاقات بينهما من ناحية وما بين مؤسسات الدولة المختلفة من ناحية أخري.وبالتالي فإن إقرار الدستور بشروط الترشح لشغل المنصب الأهم في الدولة يأخذ في الاعتبار الوسائل الكفيلة باختيار أفضل عناصر النخبة لقيادة الدولة والمجتمع; وهو ما استطاعت بعض المجتمعات المتقدمة حسمه من خلال وضع ضوابط علي من يحق لهم الترشح لشغل هذا المنصب الحيوي أو من خلال إيجاد آليات أكثر قدرة علي تجنيد وإفراز المؤهلين للقيادة, فضلا عن تحديد حدود قصوي لولايات شغل منصب الحاكم. وهو ما حاول الدستور المصري الجديد معالجته عندما حدد ولاية الرئاسة بمدتين, وقلص من سلطات رئيس الجمهورية, بما يؤدي إلي تعدد مراكز صنع القرار داخل الدولة ويعزز البعد المؤسسي, وربما عكس قرار القضاء الإداري بوقف إجراءات الانتخابات البرلمانية دلالتين واضحتين الأولي هي ديمقراطية وتعدد مراكز صنع القرار الذي أقر ممارسة رئيس الجمهورية اختصاصه في هذا المجال من خلال مجلس الوزراء, والثانية دعم استقلال القضاء. أما الركيزة الثانية فتتمثل في امتثال أطراف العملية السياسية لقواعد نقل السلطة بما ينعكس علي ضرورة توافر الرضا الشعبي, وهو الأمر الذي يرتبط بالشرعية التي تعني خضوع المحكومين للحاكم الذي تم اختياره طواعية.وإذا كانت مصر الثورة قد نجحت في اختيار أول رئيس مدني فإن الحفاظ علي شرعيته حتي انتهاء مدته هي من أبرز مقومات التداول السلمي للسلطة. وفي تقديري إذا كان ثمة تنوع في الشرعيات ما بين انتخابية وثورية ودستورية, إلا أن أهمها علي الاطلاق هي شرعية الانجاز وهي الشرعية التي تبقي ويذكرها التاريخ وترتبط بإنجاز دولة قوية واقتصاد ناجح وعدالة اجتماعية تستطيع أن تستند إليها القيادة السياسية وتستمد منها شرعية الحكم والبقاء في سدة القيادة. الأمر الذي يتطلب من القيادة السياسية تدشين مشروع وطني جامع للأمة المصرية بمختلف مكوناتها وأطيافها يعبر عن طموحاتها في غد أفضل ويضعها في المكانة اللائقة بها بين الأمم والشعوب. لذلك فإن جعل التعليم كمشروع وطني هو البداية الحقيقية لوضع اللبنات الأولي لبناء الدولة العصرية. أما الركيزة الثالثة فتتمثل في أهمية تعزيز دور الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في مصر باعتبارهما مؤسسات وسيطة تهدف إلي التنشئة السياسية وملء الفراغ الذي يمكن أن يخلفه غياب الدولة.فوجود حياة حزبية فاعلة يعزز من التعددية السياسية ويحقق التداول السلمي للسلطة. من هنا تبرز أهمية وجود قنوات للمعارضة السياسية لتقديم البدائل, فالمعارضة السياسية من المفترض أن تكون جزءا من النظام السياسي القائم, وكلما كان النظام قويا أدي إلي خلق معارضة فاعلة قادرة علي تقديم حلول ومبادرات. أما مؤسسات المجتمع المدني في مصر ورغم التحديات التي تواجهها في ظل غياب القوانين التي تؤطر عملها بشكل مؤسسي إلا أن دورها في مراحل التحول يزداد أهمية, علي أساس أن تطوير هذه المؤسسات يمثل سندا أساسيا لإحداث التغيير والتأثير الفاعلين علي مستويات الوعي والقدره علي تعزيز العمل الجماعي, وهي أيضا سند أساسي لدعم التوجه الديمقراطي وتطويره, باعتباره عملية حيوية يجب تنميتها والحفاظ عليها والاستمرار في تطويرها. ومن ثم فإن تعظيم الاستفادة من هذا القطاع يسهم في التهيئة السياسية لانتقال السلطة وتداولها بشكل آمن.وتتمثل الركيزة الرابعة والأهم لتحقيق انتقال آمن للسلطة في مصر في الحفاظ علي مهنية واحترافية المؤسسات السيادية وبعدها عن التجاذبات السياسية فبقاء القوات المسلحة والقضاء والشرطة بعيدة عن المماحكات السياسية سيضمن قدرة هذه المؤسسات علي أداء رسالتها الحقيقية للحفاظ علي المصلحة الوطنية المصرية بكل أبعادها. إن تعزيز مقومات الانتقال الآمن للسلطة في مصر علي كل المستويات سيسهم في استعادة الشعب زمام المبادرة بعد أن تم إلحاقه وإلغاء إرادته قبل الثورة لصالح نخبة هدفت لحماية مصالحها في البقاء والاستمرار, بل التوالد الذاتي في كل المناصب متجاهلة حق الشعب في اختيار من يمثله بالآلية التي تكفل له حياة ديمقراطية تمنحه حقوقا وتفرض عليه واجبات, وما بين هذه الحقوق والواجبات تبقي حرية الأوطان وديمقراطيتها كفيلة بتحقيق التوازن المطلوب بينهما. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لمزيد من مقالات د. مبارك مبارك أحمد