ونحن نحتفل بمئوية الكاتب الكبير نجيب محفوظ, يجب أن نتذكر أنه بقدر ما كان نجيب محفوظ مبدعا عظيما في الأدب, كان أيضا مبدعا عظيما في إنسانيته وقيمه وأفعاله, وإذا كان محفوظ قد سجل إبداعه الأدبي والفكري في كتاباته. فإن تسجيل روائعه الإنسانية تصبح مهمة من عاشوا معه واتصلوا به في حياته, فمن خلال رصد خصائصه وأخلاقياته نقدم قدوة حقيقة ومثاليات يتصور غالبية البشر أنه لا وجود لها, وقد تعلمت الكثير من أستاذنا نجيب محفوظ علي المستوي الإنساني, فعندما بدأت عملي بجريدة الإهرام. طلب مني الأستاذ ثروت أباظة أن أجري حوارا مع عميد الرواية العربية الأستاذ الكبير نجيب محفوظ فأسقط في يدي, أي اختبار هذا!! كيف أبدأ عملي الصحفي بمقابلة مع أستاذنا الكبير نجيب محفوظ الذي عشت سنوات طويلة شغوفا به, ومتتبعا وقارئا بنهم لإبداعاته! كيف أحاوره هكذا مباشرة وبلا مقدمات!! وأدركت أنني في مأزق.. ولم يكن أمامي إلا أن أخوض التجربة ورزقي علي الله, فتوجهت إلي مكتبه بالدور السادس بمبني الأهرام, وخيالي يجول فيما سيواجهني من تعقيدات السكرتارية وظروف مواعيد كاتبنا التي قد لا تسمح بمحاورته, وعندما فتحت غرفة مكتبه توقعت أن أري من يسألني ماذا تريد؟ وأين تذهب؟ ولكنني وجدت نفسي وجها لوجه أمام أستاذنا الكبير نجيب محفوظ علي مكتبه يجلس في سكينة ووداعة بملامحه التي لا تخفي علي أحد. هكذا مباشرة بلا حواجز أو قيود, وأدركت من ساعتها أن هذا الرجل لم يضع في حياته عوائق من أي نوع بينه وبين الناس بكل مستوياتهم, لذا وصل إلي كل الناس وأحبه كل الناس بيسر وإخلاص, استقبلني الأستاذ نجيب محفوظ ودون سابق معرفة بابتسامته الهادئة الودودة التي شعرت معها بالأمان وكأننا أصدقاء منذ سنوات, ورحت في تردد وأنا أتحسس كلماتي أعرض عليه إجراء حوار صحفي معه, فقال لي بطيبته وبساطته المتناهية مافيش مانع فالتقطت أنفاسي, وعدت فسألته متي يشرفني بهذا اللقاء؟ فقال علي غير توقع مني متي تشاء, في الموعد الذي يناسبك وتعجبت أن هذا الكاتب العظيم يترك لي حرية تحديد الموعد بما يناسبني, وأنا الذي كان ينتظر منه أن يقوم بتأجيل الأمر لأسابيع طويلة, واكتشفت بذلك جانبا مهما من شخصية كاتبنا الكبير نجيب محفوظ وهو التواضع الجم والرفق الشديد بكل من يتعامل معه, وبالفعل قمت بإجراء الحوار مع كاتبنا الكبير في الأسبوع التالي مباشرة, وكان ذلك بداية علاقة حميمة لي معه, وظللت كلما التقيت به أتعلم شيئا جديدا علي المستوي الأخلاقي والإنساني بامتياز. ومن ذلك انه بعد وفاة مفكرنا الكبير توفيق الحكيم عام 1987م, انتقل أديبنا نجيب محفوظ إلي مكتب الحكيم, وكان مكتبه بالأهرام مميزا بالفخامة والاناقة والاتساع, وكنت أتردد علي أستاذنا الكبير نجيب محفوظ في مكتبه الرائع الجديد.. ولفت نظري كلما دخلت علي الأستاذ نجيب محفوظ في مكتبه الجديد أنه دائما يجلس علي كنبة الأنتريه الموجودة أمام المكتب مباشرة دون أن يجلس علي المكتب نفسه, فكان بمجرد دخوله الغرفة يجلس مباشرة علي كنبة الأنتريه لا يغادرها تقريبا حيث يشرب وهو جالس عليها فنجان القهوة الخاص به, ويقرأ صحفه اليومية كالمعتاد بل ويلتقي بضيوفه وهو علي هذه الكنبة, مما جعلني أشعر أنه يتصرف كضيف في هذه الغرفة وليس صاحب المكتب كما هو الوضع الطبيعي والرسمي الذي كفله له الأهرام, وعندما زاد بي الفضول سألته ذات يوم: لماذا يا أستاذنا لا تجلس علي المكتب وتكتفي بهذه الكنبة فقط؟ فرد بإجابة هي آخر ماكنت انتظره.. حيث قال: هل تريدني أن أجلس علي مقعد توفيق الحكيم.. من أنا حتي أجلس علي مقعد توفيق الحكيم!! وقلت في نفسي الله علي تواضعك يا أستاذ!! أنت علي قدرك العظيم ومكانتك الشامخة!!أنت ومن أنت عميد الرواية العربية بجدارة!! وصاحب نوبل في الأدب منفردا بأعلي درجات الاستحقاق والنبوغ!! ومع هذا تستصغر نفسك أمام توفيق الحكيم وتعتبر أنك ضيف لديه في غرفته ومكتبه حتي بعد رحيله!! وتعتبر أن جلوسك علي مكتبه تجاسر لا يليق وترفض أن تجلس علي مقعده حتي رحلت أنت أيضا! إنها قيمك يا أستاذنا التي تحافظ عليها.. إنها معاييرك ومقاييسك الرفيعة, فرغم أنه لن ينازعك أو يجادلك أحد إذا جلست علي مقعد الحكيم بل سيري الجميع أن هذا الأمر بديهي, فأنت القامة العالمية العالية التي تلي الحكيم مباشرة في هذا الوطن, فسنوات العمر والإبداع بينكما تسمح لك بذلك, ولكن الذي سينازعك هو الوفاء وأخلاقياتك السامية الرفيعة, وهذا بالضبط وتحديدا عمنا نجيب محفوظ, وهذا درسه الذي يقدمه لنا في التواضع ومعرفة قدر ومكانة الآخرين, ففي الوقت الذي كان يكرمه العالم بحصوله علي جائزة نوبل, لم يعط لنفسه الحق بالجلوس علي مقعد أديبنا الراحل توفيق الحكيم, وهذا يعد أعمق درس يمكن تقديمه لمن يمارسون الاستكبار والتعالي, ولمن يتصارعون من أنصاف الموهوبين وعديمي الموهبة للسطو علي المقاعد والمناصب دون وجه حق, بينما أنت تخجل يا أستاذنا أن تجلس علي مقعد أنت الأحق به. ومن إبداعات نجيب محفوظ الإنسانية التي تضاف لإبداعاته الأدبية أنه عاش حياته حرا طليقا وسط الناس يمشي بينهم بلا حدود, يسلم علي البواب وبائع الجرائد مثلما يسلم علي المثقف والعامل وصاحب المقهي والوزير ورئيس الدولة, عاش محفوظ مع الناس ملكا لهم بلا رسميات أو إجراءات أو احتياطات أمنية, فكان يعتبر نفسه الأب والأخ لكل المصريين الذين يسيرون مع في الطريق العام أو يجلسون معه علي المقهي, ولهذا أستطاع أستاذنا نجيب محفوظ أن يجسد بأدبه وفكره حضارة مصر وأصالتها, فأستحق أن يظل حيا بيننا بما غرسه من قيم وتعاليم وإبداع, وليس أدل علي ذلك من أن سحره مازال متوهجا. المزيد من مقالات د.عبد الغفار رشدى