لعل من أكثر الأمور المثيرة للدهشة والحيرة في حياتنا كمصريين, منذ سنوات طويلة ماضية, غياب مبدأ تحديد المسئول, ومن ثم إعمال قاعدة المساءلة, عن الكثير جدا, من قراراتنا المصيرية, المتعلقة بحياتنا, وواقعنا الاجتماعي والاقتصادي, وتتجلي هذه الإشكالية بوضوح, فيما نراه, من تخبط وارتباك وتردد, في حسم مواقفنا النهائية, المرتبطة بقرار السلطتين السياسية والتنفيذية, والرأي العام كذلك, حيال تنفيذ العديد مما يمكن تسميته المشروعات القومية الكبري, وما يمكن أن يترتب علي ذلك, من التباس وحيرة, لا بالنسبة لرجل الشارع العادي فحسب, ولكن حتي بالنسبة للمتخصصين وذوي العلم والمعرفة..!! ومن المعروف عالميا, أن مسئولية اتخاذ مثل تلك القرارات الاستراتيجية, إنما تقع علي ما يعرف بمراكز الفكر, أو مصانع التفكير.. حيث تضم تلك المراكز وتجمع, نخبا متميزة من الباحثين الذين يعكفون علي إجراء دراسات معمقة ومستفيضة, لتقديمها كاستشارات أو سيناريوهات مستقبلية, يمكن من خلالها مساعدة متخذي القرار, في تعديل أو تقرير أو رسم السياسات, بناء علي تلك المقترحات في مختلف المجالات, إلي الحد الذي أصبحت فيه تلك المراكز, إحدي أهم وسائل اتخاذ القرار, لا علي المستوي المحلي فقط, ولكن علي المستوي العالمي أيضا, حيث ترجع أهميتها للعديد من الأسباب, أهمها ما يلي: { إنها تحل مشكلة الانفراد بالرأي والقرار الذي يفتقر في أحيان كثيرة إلي عمق التحليل, وقوة المعلومة, والحيادية العلمية. { لتأثيرها علي كل من القرار السياسي أو الاستراتيجي, فضلا عن تأثيرها الحيوي في الرأي العام, الذي يتأثر كثيرا من خلال وسائل الإعلام, التي تعتبر بدورها, أداة رئيسية لنشر الفكر العلمي والبحثي. { إنها أصبحت كإحدي أهم وسائل الحياة الناجحة المتسمة بالمهنية, التي تبتعد عن غوغائية التفكير وعبثية التنفيذ, والمبالغة في تصوير وتسويق النتائج أو الثمار. وأظن أنه لدينا في مصر الآن, جهتان منوط بهما القيام بهذا الدور, وهما المجالس القومية المتخصصة, وذلك كما جاء في المادة رقم 164 من الدستور الحالي, بالإضافة إلي مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار, فالأولي تم إنشاؤها بقرار جمهوري في عام 1971, بينما تم تشكيلها في عام 1974, لتكون جهازا تابعا لرئيس الجمهورية, ومعاونا له في رسم السياسة العامة, علي المدي الطويل, ومعالجة المشكلات الملحة والعاجلة. أما الثانية وهي المركز المذكور فقد أنشئ في نوفمبر عام 1985, بحيث يتبع رئاسة مجلس الوزراء مباشرة, ليكون أحد أهم مراكز الفكر المصري المتميزة, التي تمد وتدعم متخذي القرار, برؤاها العلمية والبحثية, في مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, مع التركيز علي القضايا ذات الأولوية. وعلي الرغم من وفرة الدراسات التي تعدها المجالس القومية المتخصصة, والتي تقدر بأكثر من مائة تقرير ودراسة شهريا!! وعلي الرغم من تعدد الإصدارات التي ينتجها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار, التي تتوزع بين: الدراسات, وسلاسل الأوراق البحثية, واستطلاعات الرأي, والتقارير, وموجز السياسات, والإصدارات المستقبلية, وأوراق الحوار, وإدارة المعرفة, والآراء المتعلقة بالسياسة العامة.. علي الرغم من كل هذا, فلا نزال نعاني مثلا عدم الاستفادة بشكل مفيد أو كامل, من دراسات وتقارير المجالس القومية, التي يكون مآلها النهائي هو الأدراج عادة!! حيث يري بعض المتخصصين أن تلك التقارير ليست بالمعني العلمي كما أنها غير موحده في آلية جمع بياناتها, وغالبا ما تبتعد توصياتها عن مضمونها..!! أما فيما يتعلق بدراسات مركز المعلومات, فإنني أعتقد أن مجالها ومآلها, لا يختلفان كثيرا عن دراسات المجالس القومية إلي حد ما, وخصوصا فيما يتعلق بما ينبغي أن تقدمه لمتخذ القرار, حيال قبول أو رفض ما يعرضه بعض العلماء, من مشروعات قومية كبري, وإن كانت الثانية ربما, أكثر حداثة واهتماما وتقدما من الأولي, إلا أنني لا أظن أنه تتم الاستفادة بها أيضا, كسابقاتها إن وجدت بشكل فعال. وهكذا نجد أنفسنا علي المستويين الشعبي, والعلمي البحثي, في حيرة من أمرنا, فهل كانت قراراتنا النهائية, التي اتخذت بالفعل, بشأن مشروعاتنا الاستراتيجية القومية الكبري, التي شرعنا بالفعل في تنفيذها, أو تلك التي نفذت بالفعل, محل نظر وتمحيص وتدقيق ودراسة كافية؟ وذلك استنادا إلي ما قدمته مراكز الفكر الموجودة عندنا بشأنها؟.. وإذا كانت إجابتنا ب نعم.. فلماذا تعثرت إذن؟!.. وبالمنطق نفسه, فإنني أتساءل, حول موقف الكثير من تلك المشروعات المستقبلية الكبري التي سمعنا وقرأنا الكثير عنها وحولها, مثل: مشروع مصر التنمية ومشروع نقل الكثافة السكانية إلي غرب ممر ومشروع التنمية اعتمادا علي النهر الجوفي الغربي.. تلك المشروعات, التي روج لها البعض كثيرا من قبل, ولسنوات طويلة, إلا أنه لم يتم بعد اتخاذ أي قرار نهائي بشأنها!؟.. وهنا تتجلي أهمية وحيوية وأولوية مراكز الفكر المذكورة, لتقول قولتها الحاسمة والنهائية بشأنها ؟!, الآن وفورا, بدلا من هذا التيه والغموض الذي يكتنفها ويلفها, وبشكل يدعو اتساقا مع ذلك للخوف والقلق معا, حتي يتم تحديد المسئول عن القرار النهائي بخصوصها, ومن ثم تحديد من يمكن مساءلته عنها, وهو ما يدفعني للتساؤل بشدة: لمن القرار.. اليوم.. بشأنها؟ د. حسام بريري أستاذ الاقتصاد الزراعي جامعة الأزهر