النتائج التي اسفرت عنها الانتخابات البرلمانية الاخيرة تبدو بمثابة اختبار حقيقي للحزب الحاكم في نفس الوقت الذي اعتبرها الكثيرون من المراقبين مقدمة للصحوة التي دفعت معارضيه الي الخروج الي قلب العاصمة يطالبون برحيل فلاديمير بوتين رئيس الحكومة الروسية وينعتون حزبه بانه' حزب اللصوص والنصابين' ويرفعون شعارات' الثورة.. الثورة'. فشل الكرملين مرتين.. الاولي حين بالغ في تقدير مواقعه ولم يحسن قراءة تضاريس الخريطة الاجتماعية ما افضي الي اخفاق حزبه الحاكم' الوحدة الروسية' في تحقيق الاغلبية الدستورية التي طالما اعلن انها هدفه المنشود, فيما كانت الثانية في الهزيمة الفادحة التي مني بها حزب' القضية العادلة' الذي وقف الرئيس ديميتري ميدفيديف وراء تشكيله,وبلغت حد حصوله علي نسبة لم تزد عن نصف في المائة من اصوات الناخبين وهو الذي كان يرشحه منافسا رئيسيا لاحزاب المعارضة في محاولة لتحقيق حلم الاكتفاء بحزبين كبيرين علي غرار الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولاياتالمتحدة. واذا كانت الاوساط المحلية والعالمية لم تعر امر فشل' حزب القضية العادلة' اهتماما يذكر ولا سيما ان احدا لم يأخذه علي محمل الجد منذ البداية, فان ما احتدم من جدل حول فشل الحزب الحاكم وخسارته لسبعة وسبعين من مقاعد الدوما يقول بان الامر بات ينذر بالكثير من الخطورة التي تتهدد ما كان يقوله بوتين حول انه وحزبه من اهم ضمانات الاستقرار في روسيا. ويزيد من حدة هذا الطرح ما شهدته الساحة السياسية الروسية من انتقادات لاسلوب' توريث الحكم' وتبادل المواقع بين الرفيقين بوتين وميدفيديف وهو ما يدرجه المراقبون والمتابعون للشأن الروسي ضمن صدارة اسباب احجام الكثيرين من الناخبين عن التصويت للحزب الحاكم.وفي هذا الصدد اشار ميخائيل دميتريف رئيس مركز الابحاث الاستراتيجية في تصريحاته الي صحيفة' كوميرسانت' الي ان الفترة الاخيرة كشفت عن ظهور' اوضاع جديدة' في كل كبريات المدن الروسية تقول بان اصحاب الرؤي السلبية تجاه السلطة في تزايد مستمر بما يشكلون معه الاغلبية التي يمكن ان تكون قاطرة للآخرين من ذوي التوجهات النمطية ممن لم يشكلوا بعد رايهم الخاص وبما يمكن ان يستسهلوا معه الانقياد وراء رأي الاغلبية في توقيت يشهد تصاعد سخرية الاوساط الشعبية من ظاهرة' الثنائي الحاكم' واحتكار هذا الثنائي لزمام القيادة بما يبدو اشبه بالتوريث في المجتمعات العربية.وكانت استطلاعات الرأي رصدت ومنذ ما قبل موعد الانتخابات ما يقول بتراجع مواقع الحزب الحاكم وانحسار شعبية القيادة السياسية وتزايد احتمالات عدم اقبال الكثيرين من الناخبين علي مراكز الاقتراع, وهو ما حدث بالفعل وإن اعتبره الكثيرون ومنهم جليب بافلوفسكي رئيس صندوق السياسة الفعالة الذي سبق وانشق علي بوتين واضطر لاحقا الي ترك مواقعه الي جوار ميدفيديف,' انقاذا للحزب الحاكم من هزيمة اثقل وطأة' علي حد تعبيره. علي ان الظاهرة التي سجلها المراقبون وصارت في متناول العامة والخاصة تمثلت في تداول وقائع ومشاهد التزوير السافر تاكيدا لما سبق واكده62% من المشاركين في استطلاع للراي اجراه مركز' ليفادا' حين اعربوا عن يقينهم من تزوير السلطة لنتائج الانتخابات. وما ان تداول الكثيرون ذلك بالصوت والصورة عبر المواقع الالكترونية ونقلا عن شهود العيان حتي خرجت الجماهير الي شوارع العاصمة موسكو وسان بطرسبورج ترفع شعارات تنادي' روسيا الموحدة.. حزب اللصوص وقطاع الطرق' و'روسيا بدون بوتين'احتجاجا وادانة واعلانا عن ان الاوضاع يجب ألا تستمر علي ذات النحو. ورغم كل الاجراءات الاحترازية التي بذلتها قوات الامن والشرطة للحد من اتساع رقعة الاحتجاجات التي كان مصرحا بها لمظاهرة' الحزب الشيوعي' لعدد لا يزيد علي اربعمائة شخص, فقد تدفقت الجموع البشرية في مظاهرات اخري لم تصرح بها السلطات الرسمية وقدرها شهود العيان بما يقرب من خمسة الي سبعة الاف متظاهر, الي الشوارع القريبة من مقر الامن والمخابرات في ميدان لوبيانكا بقلب العاصمة الروسية استجابة لنداء مظاهرة منظمة' التضامن' المعارضة يرددون شعارات تنادي' الثورة.. الثورة', ما دفع الشرطة الي اعتقال الكثيرين من قياداتهم بعد ان نجح بعضهم في اختراق الكردون البشري الذي شكلته قوات الامن والشرطة مستعينة بالشاحنات الكبيرة, وكانوا يحاولون الوصول الي مقر اللجنة المركزية للانتخابات علي مقربة مباشرة من الكرملين والساحة الحمراء. وكانت مظاهرات مماثلة جرت ايضا في سان بطرسبورج رغم عدم التصريح باي منها شهدت الكثير من الصدامات مع رجال الشرطة وقوات الامن والتي حرص نشطاء المعارضة علي نشر وقائعها علي المواقع الالكترونية. ومن اللافت ان المظاهرات التي خرجت احتجاجا علي نتائج الانتخابات شملت عناصر جديدة من الشباب وممثلي مختلف فئات المجتمع ولم تقتصر حسبما كان الحال في السابق علي المتقاعدين والقوميين المتشددين ممن سئموا تسلط الحزب الحاكم وممثليه في كبريات المدن والاقاليم الروسية.وكان احد زعماء المتظاهرين كشف عن توجه جديد يقول ان الثورة الروسية سيصنعها الشارع ولن تندلع حسبما يتصور البعض من خلال الفيس بوك والانترنت حسبما كان في الثورات العربية. واذا كانت النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية كشفت عن' فشل' الحزب الحاكم في قراءة ما يعتمل في نفوس الملايين من بسطاء مواطنيه وما يصبون اليه من طموحات لا تقتصر علي المجالات الاقتصادية والاجتماعية وحسب وتتعداها الي حياة ديموقراطية حقيقية, فانها اكدت في نفس الوقت عدم مصداقية ما تردده الاجهزة الاعلامية المؤتمرة بامره من شعارات تقول بان ما طرحته السلطة من مهام استراتيجية خلال ولايتي الرئيس السابق فلاديمير بوتين منذ عام2000 وحتي عام2008 قد نفذ بنجاح. وثمة من يقول ان هذه النتائج ورغم كل محاولات القيادة السياسية الرامية الي التخفيف من حدتها ومدلولاتها تبدو انذارا مباشرا الي الكرملين وتحذيرا من مغبة الافراط في التفاؤل تجاه نتيجة الانتخابات الرئاسية المرتقبة في مارس2012 وإن كان بوتين لا يزال المرشح الاوفر حظا للفوز بها للمرة الثالثة في اطار سيناريو التوريث علي الطريقة' البوتينية'. ومن هذا المنظور يتوقع الكثيرون تغييرا في التكتيك من جانب الحزب الحاكم الذي كان استمرأ الانفراد بصناعة القرار من خلال اغلبيته الدستورية السابقة التي طالما دفعت رئيس مجلس الدوما والرئيس التنفيذي للحزب الحاكم بوريس جريزلوف الي ترديد مقولته حول ان' الدوما ليس ساحة للمناقشات' في تحد سافر وتجاهل غير مبرر لملاحظات وانتقادات احزاب المعارضة. علي ان النتائج الاخيرة تقول ايضا ببوادر تغيير في سيناريو المواجهة من جانب فصائل المعارضة وهو ما اعلن عنه جينادي زيوجانوف رئيس الحزب الشيوعي الروسي حين اعرب عن استعداد حزبه للتحالف مع حزبي' روسيا العادلة' و'الديموقراطي الليبرالي' في محاولة لاختبار النوايا الحقيقية لهذه الحزبين, مشيرا في نفس الوقت الي انه' يعرض علي القيادة السياسية للدولة الجلوس لمناقشة التفاصيل كيلا تتدهور اوضاع البلاد علي ضوء ما اظهره المواطنون من عدم ثقة لذلك النهج الذي تتبعه هذه القيادة' علي حد تعبيره. ورغم ما سبق واعلنه سيرجي ميرونوف رئيس حزب' روسيا العادلة' من رغبة وتوجهات نحو التحالف مع الحزب الشيوعي, كشف نيكولاي ليفتشيف احد قيادات هذا الحزب عن انه لا يستبعد التحالف مع الحزب الحاكم وإن سارع ليقول باحتمالات التحالف مع احزاب المعارضة في بعض القضايا المحددة!. واذا اضفنا الي كل ذلك ما اعلنه كل من قطبي النظام بوتين وميدفيديف من وعود فاننا نكون امام تزايد احتمالات قرب ولوج روسيا سلطة ومعارضة, الي مرحلة جديدة من المراجعة للكثير من التوجهات التي طالما حددت مسار الدولة, وما يبدو مقدمة لتغييرات واسعة لا بد ان تشمل ما اعتبره الكرملين من ثوابت العصر!.