بقلم: فاروق عبد القادر : حدث هذا في حواري الغورية, في الربع الأخير من القرن الثامن عشر: جمع الجوار في السكن والصحبة في المقهي بين أصدقاء ثلاثة: يزيد المصري, الذي جاء القاهرة بعد أن هلك أهله أثناء اجتياح الحملة الفرنسية للإسكندرية, وعطا المراكيبي, الذي يعمل في دكان يملكه رجل مغربي, زوجه ابنته وأورثه الدكان, والشيخ القليوبي, المدرس بالأزهر.. وشهد الرجال نابليون بونابرت علي جواده وهو يسير علي رأس جنوده أمام المشهد الحسيني, وعاصروا تقلبات حملته, وخاصة ثورتي القاهرة.. وعاصروا بعد ذلك ولاية محمد علي ومذبحة المماليك, والثورةالتي أحدثها الوالي في البلد وأهله.., وفي أوقات متقاربة, تزوج الأصدقاء الثلاثة وأنجبوا البنين والبنات. هكذا تبدأ ثلاث شجرات عائلة بالمعني المحدد للكلمة, حتي ليمكنك أن ترسمها باللون الأزرق, ويروح نجيب محفوظ بدأبه المألوف يتابع الفروع والأغصان, الأبناء والأحفاد ومن الأحفاد من لايزالون يعيشون بيننا في مصر أو خارجها. وهكذا أيضا ترتسم أمامنا جدارية هائلة من الشخصيات والأحداث, في عدد قليل من الصفحات, لا يكاد يتجاوز المائتين, كل شخصية تضيف لمسة هنا أو أخري هناك, والروائي ممعن في حياده الظاهر, يرتب الشخصيات حسب حروف الهجاء, ولا ينسي هذا الموظف العتيق أن يكتب الأسماء ثلاثية وأحيانا رباعية! حتي تكتسب شهاداتها الصدق والصحة, ويقف بها عند رقم سيتكرر كثيرا, وستكون له آثاره علي الجيلين الثالث والرابع: سبعة وستين وعليك بعد أن خلط لك الأوراق أن تعيد ترتيبها في سياق تتابعها الزمني. ثم أن تسأل السؤال الأساسي: وأين يختبئ الروائي الماكر؟ ويحدث التمايز المحتوم منذ بداية البداية: أثناء جولات الغلامين الشقيقين داود وعزيز ابني يزيد المصري في حواري الغورية, ينقض عليهما جنود الوالي محمد علي. أدركوا الأول وفر الثاني, وأرسل داود إلي المدارس ثم إلي باريس حيث درس الطب, ورجع من بعثته طبيبا, سرعان ما حصل علي الباشوية وأصبح من رجال العصر, علي حين بقي شقيقه الذي نجا من هذا المصير ناظرا لسبيل بين القصرين. وتأسس في العائلة الواحدة فرعان, أحدهما يتميز بالثراء والنفوذ والعلم ويسكن السرايات في الأحياء الراقية, والثاني يضطرب فيما يضطرب فيه أوساط الناس. بقيت بين الفرعين روابط المودة والقربي, لكن الوجدان الطبقي راسخ تحت السطح الساكن, ما أسرع ما يفصح عن وجهه الجهم المتعالي كالجدار. ولئن كان هذا الفرع قد صعد بالعلم والثراء, ثمة من صعد بالثراء وحده: بعد موت امرأته الأولي, تزوج عطا المراكيبي من أرملة ثرية. وبسرعة مذهلة صعد من طبقة لطبقة.. بني السرايا الضخمة في ميدان خيرت, وابتاع عزبة في بني سويف والحق أن الثروة كشفت عن مواهبه الكامنة وقوة شخصيته, كما هتكت حرصه وشحه وجشعه اللانهائي إلي الثراء, وبخلاف الظنون فرض سيطرته الكاملة علي امرأته والمتعاملين معه, حتي شبهه الشيخ القليوبي بالوالي الذي جاء مصر جنديا بسيطا, ثم تعملق فوق هامة إمبراطورية مترامية, بل كانت نهاية إمبراطورية بني سويف خيرا من نهاية الوالي ألف مرة.., وفي ذريته كذلك اجتمع الفقر والثراء, فابنته من زوجته الأولي وأبناؤها انطفأ أملهم في أن يرثوا شيئا من ثروته المترامية, وآلت كلها إلي أبنية من الزوجة الثرية. وتمتد خطوط الفروع وتتشابك, ما بين الغورية وبيت القاضي وبين السرايات وميدان خيرت, جمعت بين الأبناء علاقات القربي والتزاور, وقامت بين فتيان وفتيات منهم علاقات حب اتسمت بما اتسم به الحب في ذلك الزمان, أقل القليل منها انتهي إلي التحقيق, وأكثرها حالت الطبقية دون تحققها, ومن خلال هذه العلاقات ترتسم أمامنا صورة متكاملة للأوضاع الاجتماعية والطبقية في القرنين التاسع عشر والعشرين فعدد ليس قليلا من شخصيات هذا العمل لايزالون يعيشون في قلب الحاضر منهم بعض سادته, الذين أفادوا من انفتاح السادات حتي بلغوا قمة القمة, ولعل أبرز ما كشفت عنه تلك العلاقات أن الفروع الأرستقراطية قد لا تمانع في أن تهب بعض فتياتها للأبناء النابهين من الفروع الأخري, لكنها أبدا لا تزوج أبناءها من فتياتهم, حدث هذا في جيلين متتابعين! علي أن أهم الملامح في هذه الجدارية الرائعة يمثلها خطان يسيران معا, جنبا لجنب: الموقف من أحداث التاريخ المصري في أهم لحظات تحوله من ناحية, ثم انتقال التراث الشفاهي الغيبي من جيل لجيل, من الناحية الأخري: إن أهم لحظات التاريخ المصري تحدد سلوك الشخصيات, من حيث هي كذلك, ومن حيث هي دلالات لمواقف طبقية محدودة إزاء الأحداث. يسري هذا علي الثورة العرابية مثلا: إن عطا المراكيبي الصاعد بقوة وسرعة نحو القمة قد حدد موقفه منها بوضوح قاطع: لم تغز الثورة العرابية وجدانه من مدخل وطني, ولكن من زاوية أملاكه وأمواله, فلما صعدت موجتها حتي ظن لها النصر المبين أعلن تأييده لها, تبرع بشيء من المال طاويا آلامه في صدره, ولما تكالبت عليها القوي المعادية ولاح فشلهافي الأفق أعلن ولاءه للخديو.., ولما شعر الرجل بأنه يمضي نحو النهاية التي لا مهرب منها, قدم لابنه خلاصة تجربته, ودستور طبقته التي قامت أسسها ورسخت دعائمها: اعتل العربة وطنك.. وحذار من الخطب والشعر! لاعجب إذن أن أعلن ابنه ووريثه القوي عقب ثورة1919 انحيازه للملك لا لسعد ولا لعدلي, وقال بأفصح بيان: لقد انتهت اللعبة, فلا تتصور أن الإنجليز سيغادرون مصر ولا تتصور أن مصر تستطيع أن تعيش بغير الإنجليز..., لا عجب مرة ثانية, فنحن إزاء كاتب يؤمن بالوراثة ودورها إيمانا كبيرا, ويتابع بصبر غريب انتقال ملامح الجدات والأمهات للحفيدات والبنات أن كان من أبنائه ضابط شرطة اشتهر في عهود الانقلابات السياسية بالعنف الشديد في مواجهة المتظاهرين, وكان هذا العنف خير تزكية له عند القصر والإنجليز ولا عجب مرة أخيرة أن يرتحل أبناء هذا الضابط الثلاثة بعد موت عبد الناصر: اثنان إلي أمريكا والثالث إلي السعودية. علي الجانب الآخر, تحمس الشيخ معاوية القليوبي للثورة العرابية ومال إلي تيارها وأيدها بالقلب واللسان, ولما فشلت الثورة واحتل الإنجليز مصر, قبض عليه فيمن قبض عليهم, وقدم للمحاكمة, فقضت عليه بالسجن خمسة أعوام.. صحيح أن الشيخ خرج من سجنه ليجد نفسه غريبا في دنيا غريبة, ولم يجد عينا تنظر إليه بعطف, لكن الصحيح كذلك أنه ذاب في قلب التاريخ وتخلل نسيجه, وأصبح في الضمير الشعبي بطلا, يضاف في هذا الوجدان إلي عنترة والهلالي وآل البيت. إنما من أحفاد الشيخ معاوية سيتألق شباب وطنيون في ثورة1919, ونجوم من ضباط يوليو1952, وشهداء في المعارك التي تلت قيامها حتي أكتوبر1973. عن هذا الخط يمكنك القول إن نجيب محفوظ قدم لونا من التاريخ الفني لأهم نقاط التحول في تاريخ مصر المعاصر, من مجيء الحملة الفرنسية حتي مصرع السادات, تاريخ لا ترويه وقائع جافة, بل نسيجه شخصيات من لحم ودم ووراثة واكتساب وتعليم ومصالح, عاشت متأثرة بهذه النقاط الفاصلة, تصوغ حياتها في ضوء نتائجها, وهي تدري أو لا تدري. في هذا التاريخ لا يبدو الروائي المتظاهر بالحياد محايدا, لكنه يهب أفضل المصائر لهؤلاء الذين انحازوا للثورة الوطنية في تجلياتها المتتالية, وأسوأ المصائر خارج أرض مصر غالبا للأجيال الجديدة التي طحنها(5 يونيو) وتهاوي الأحلام لمن اختاروا لوقوف علي الجانب الآخر من الخندق, آية كشف الروائي عن وجهه الحقيقي يتمثل في تأريخه لثورة1919 وزعيمها, هذا الكشف يحدث من وراء أقنعة متعددة للشخصيات التي عاصرتها, ولعل أصدق الكلمات وأقربها إليه: بلغ قمة انفعاله في ثورة1919, وعشق زعيمها,واشترك في إضراب الموظفين, وحافظ علي ولائه للزعيم رغم انشقاق أهله العظام عليه, وتابع خليفة الزعيم مصطفي النحاس بكل وجدانه, ووزع الشربات يوم عقد المعاهدة, وأيد الزعيم بقلبه ضد الملك الجديد... إلخ. يبقي الوجه الحقيقي لهذا الروائي, دائما, يحوم حول تمثال سعد زغلول! الخط الثاني يبدأ من ذات البداية: ولدت جليلة في الربع الأول من القرن التاسع عشر, وتزوجت الشيخ معاوية الذي كان قد بدأ حياته مدرسا في الأزهر الشريف, وقد عرفت بأنها موسوعة في الغيبيات والكرامات والطب الشعبي, وكأنما أخذت من كل ملة بطرف, بدءا من العصر الفرعوني, ومرورا بالعصور الوسطي, وحاول الشيخ معاوية ما استطاع أن يلقنها أصول دينها, ولكنه من خلال المعاصرة الطويلة أخذ منها أكثر مما أعطاها.., وقد عمرت جليلة حتي جاوزت المائة بعشرة أعوام, عاصرت فيها فترة من حكم محمد علي, وعهود إبراهيم وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية وثورة1919, ولم يرسب في أعماقها زمن كالثورة العرابية التي اعتبرت زوجها من أهم رجالها, وما أكثر ما روت من بطولاته وسجنه لأحفادها, وذهب بها الخيال في ذلك كل مذهب... من بين أبنائها وبناتها ورثتها راضية, هي التي تمثلت تراثها ورعته وأضافت إليه, هي الأم والجدة المؤسسة, وتكاد أن تكون أكثر الشخصيات حظا من عناية الكاتب: إن ما تلقته عن أبيها الشيخ لا يقاس بما تلقته عن أمها من الغيبيات والخوارق وسير الأولياء وكراماتهم وأسرار السحر والعفاريت, والأرواح الساكنة في القطط والطيور والزواحف, والأحلام وتأويلها, وقراءة الطالع, والطب الشعبي, وبركات الأديرة والقديسين والقديسات.., هي الوجدان الشعبي الحافل بكل الموروث, وهي التي انطبعت علي صفحتها أهم الأحداث: الثورة العرابية وثورية,1919 وسجلت في قاموسها الخالد وليا جديدا اسمه سعد زغلول.., ومثل أمها عمرت راضية حتي جاوزت المائة, وفي أثناء ذلك تحول الأبناء إلي أسر وشب أحفاد جدد.. وسمعت بولي آخر اسمه مصطفي النحاس, وأخيرا آخر الأولياء الذين عاصرتهم جمال عبد الناصر الذي رفع أحفادا لها حتي السماء, وخفض أعزة منهم إلي الحضيض أو السجن, فراوحت بين الدعاء له, والدعاء عليه!. من أبناء راضية وبناتها كان قاسم آخر العنقود, وكان أخلص المستمعين لأمه, وأصدق التابعين لها في أحلامها وجولاتها الروحية بين الجوامع والأضرحة, وكلما جمح به الخيال وجد عندها الأذن الصاغية والقلب المصدق.., منذ صباه تطلع نحو بنات الأسرة الجميلات بشهوة مستوفرة قبل أوانها, مع تدين مبكر وصلاة وصيام, فتعذب دائما بين الحب والعبادة, وسقط ذات يوم مغشيا عليه, قال الطبيب إنه صرع خفيف, لكنه تطور ليصبح اتصال بأهل الغيب.. وهجر قاسم المدرسة باستهانة, وراح في الحواري, أو يطوف ببيوت إخوته وأخواته وأقاربه, وفي كل موقع يتناول المشروبات وينثر كلماته الغامضة تنبؤا عن المستقبل كما يتراءي له.. وتجيء الحوادث مصدقة لنبوءاته حتي عرف بينهم بالشيخ. ومن شيخ إلي ولي كأنه خلق للولاية.. بدل بملابسه الأفرنجية الجلباب والعباءة والعمامة وأطلق لحيته وقسم وقته بين استقبال زواره الذين يحملون إليه الرزق الوفير والعبادة, حتي أمه الأستاذة العريقة أصبحت من تلامذته ومريديه, وتزوج واحدة من بنات أعمامه وهو في الثلاثين وأنجب ابنا واحدا. هذا خط ينسحب وتلاشي مع خطوط الضياء والعلم, ليس عبثا إذن أن يكون هذا الابن الوحيد وقد أسماه أبوه النقشبندي! كامل الصحة والذكاء, تخرج مهندسا في عام النكسة, وأرسل في بعثة إلي ألمانياالغربية قبيل السبعينيات, وكانت حال البلد قد أرهقت صحته النفسية فقرر الهجرة, فالتحق بعمل في مصنع للصلب بعد حصوله علي الدكتوراه, وتزوج من ألمانية, واستقر هناك بصفة نهائية, حزنت أمه لذلك أما قاسم فلم يكن يحزن لشيء! وقارئ نجيب محفوظ يعرف أنه لا يخلو من قسوة وهل خلت منها الحياة؟ وقد يتذكر مصائر بعض شخصياته النسائية بوجه خاص, علي رأسهن عندي عائشة زهرة بين القصرين, الجميلة المتفتحة للحب, وما كانت فيه من تزامل. ونفيسة التي جدلت خيوط صنعتها من الدمامة والشبق واليأس والتطلع في بداية ونهاية, أضيف إليهما هنا شخصيات عديدة: صديقة, الجميلة المنتحرة في عز الشباب واليأس والألم, وبدرية التي سقطت ضحية للصرع إبان تفتحها كالوردة, وجميلة التي فقدت أسرتها كلها بقضاء لا راد له, وحبيبة التي ترملت وهي دون العشرين, ثم فهيمة, الجميلة الثرية خريجة الميردي دييه التي يحاكي مصيرها مصير عائشة, إن لم تفقها تعاسة والتي فقدت ذريتها بعد أن اكتمل لها الشباب والأمل. وقد لا تملك مثلي أن تحبس هذا السؤال: لماذا يحتفظ نجيب بهذه المصائر التعسة لبطلاته الجميلات المتفتحات للحب والحياة؟ لماذا يجعل في انتظارهن دائما الثكل والترمل, الموت والجنون, وفي أخف الحالات العقم والعنوسة؟ لا فن بغير شغل وصنعة, وهنا شغل وصنعة: حديث الصباح والمساء إضافة ثمينة لقلب عالم نجيب محفوظ هي تمت بصلة واضحة إلي الثلاثية والباقي من الزمن ساعة وملحمة الحرافيش, من حيث هي رواية أجيال وتمت من ناحية أخري بصلة واضحة إلي ميرامار و المرايا من حيث هي رواية شخصيات, أثمن ما فيها تفاصيل تلك الجدارية الهائلة, والتي تجد فيها كلما أمعنت النظر اللون الواحد, في درجاته كلها, يشغل مكانه مع بقية الألوان, لا يتجاوز حيزه المحدد له في إحكام هندسي دقيق أي صباح وأي مساء؟ صباح التاريخ المصري الحديث ومساؤه؟ صباح الميلاد ومساء الموت؟ ليست هناك كلمة واحدة أخفيت بحذق بين المربعات البيض والسود. حديث الصباح والمساء, هو حديث الحياة الممتلئ بتناقضاتها التي لاتني تتفاعل ملقية بحركة التاريخ إلي أمام, كلما أسفر مساء عن صباح, وأفضي صباح إلي مساء.