القفز بمظلات العقل فوق أسوار الخرافة, وركام الجهل والتعصب, والدعوة الي الحرية, هواية مارسها باحتراف لأكثر من نصف قرن. حروب مقدسة خاضها المفكر الفيلسوف الراحل فؤاد زكريا ضد التخلف والمسلمات الفكرية والثوابت الظلامية, متحصنا بالعقل النقدي, رافعا راية العقلانية حتي النهاية. أبحر في أعماق العقل العربي, فاصطدم بكتل هلامية من التفكير اللاعقلاني, وأزعجه الحضور الطاغي للخرافة, والغياب الملحوظ للمنطق, فخرج بصيده الثمين: مشكلة العقل العربي, والتي تعني ان التفكير العلمي السليم مازال بعيدا عن التغلغل في أذهان الناس وحياتهم العامة علي المستويات والطبقات كافة. شغلته هذه المعضلة طوال النصف الثاني من القرن العشرين وتناولها في كتبه التفكير العلمي, خطاب الي العقل العربي, مشكلات الفكر والثقافة. التفكير العلمي الذي قصده فيلسوف الحياة لا ينصب علي مشكلة متخصصة بعينها أو حتي علي مجموعة من المشكلات المحدودة التي يعالجها العلماء, ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة, ولا يقتضي ان يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا علي البحث المؤدي الي حل مشكلات العالم الطبيعي أو الانساني, بل إن ما نود ان نتحدث عنه انما هو ذلك النوع من التفكير المنظم, الذي يمكن ان نستخدمه في شئون حياتنا اليومية, أو النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة, وفي علاقتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وهكذا نجح أبرز أركان الدعوة الي العقل النقدي والدولة المدنية, في جر الفلسفة من برجها العاجي والنزول بها الي حياة الناس ومعاملاتهم اليومية, بوصفه صاحب مشروع حضاري تنموي يفوق تنظيرات المتعملقين الذي حولوا الفلسفة الي تابوهات وطلاسم ومناطق اهتمام محظورة علي الأقل بالنسبة للعامة. بورسعيد شهدت بداية الرحلة بمولده في ديسمبر1927, ثم تخرجه في قسم الفلسفة بآداب القاهرة1949, وحصوله علي الدكتوراه من جامعة عين شمس عام1956, وعمله بالجامعة نفسها حتي ترؤسه لقسم الفلسفة عام1974, ومن بعدها سافر الي الكويت أستاذا ورئيسا للقسم بكلية الآداب حتي عام1991. خلال محطته بالكويت ألف وترجم روائع في الفكر والفلسفة بجانب رئاسته لتحرير مجلة الفكر المعاصر وعضويته بهيئة تحرير أهم سلسلة ثقافية في العالم العربي وهي عالم المعرفة. ثمانينات القرن الفائت شهدت واحدة من معاركه الفكرية المثيرة بإصداره لكتابه الحقيقة والوهم في الحركة الاسلاميةالمعاصرة والصحوة الاسلامية في ميزان العقل وكلاهما فسر ملامح فكره وشعاره الذي أطلقه في منتصف القرن العلمانية هي الحل. أكد في غير موضع ان العقول لا تتغير من فراغ, فلا معني لدعوة تغيير طرق التفكير عند الناس أولا, ثم بعد ذلك تغيير الظروف والأوضاع لان الدعوة بهذا الشكل دعوة معكوسة علي حد قوله, فالعقول لا يعاد تشكيلها بقرار فوقي أو خطة طويلة المدي, العقول لا تبدأ التغيير الا بعد ان تتغير الأوضاع من حولها. في عام1991 وقف بشجاعة ضد صدام حسين, وطالب العرب بعدم مساعدته رافضا غزوه للكويت, الذي حتما سيقود الأمة إلي الوراء ويجلب لها من الكوارث ما لا تطيق. الجرأة السياسية لازمته طول حياته وشهادته السابقة ضمنها في كتابه الثقافة العربية وأزمة الخليج.. وبسببها حسبه البعض علي الكويت, لعمله بالمؤسسات الثقافية الكويتية آنذاك. زكريا الذي عاش بأمريكا لفترات حين درس الفلسفة بجامعة نورث كارولينا وحين عمل مترجما بالأمم المتحدة, لم يتردد في نقد النموذج الأمريكي في وقت كان الانبهار به وبالدولة الحلم علي أشده.. وهكذا جاءت أراؤه وتحليلاته صادمة عميقة في كتابه العرب والنموذج الأمريكي فهل كانت شهادته مجروحة هذه المرة؟ اشتبك بالفكر والرأي والتحليل الفلسفي مع الناصرية ومع أفكار الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل, وطرح رؤيته الخاصة التي تليق بمفكر ليبرالي يساري محافظ في كتابه الأشهر كم عمر الغضب محللا ما ورد في كتاب هيكل خريف الغضب. في كتابه المهم والمغمور أيضا مغامرة التاريخ الكبري... علي ماذا يراهن جورباتشوف كسب زكريا رهان دهاء التاريخ, ذلك الاقتراب الذي استند اليه في تنبئه بالهدم الكامل للتجربة السوفيتية نقيضا للبرويسترويكا أو إعادة البناء. عاشق الموسيقي الذي رحل عن83 عاما ترك لنا زادا ثقافيا ثريا استهله بنيتشه واسبينوزا ونظرية المعرفة. وتبعه بالانسان والحضارة والتعبير الموسيقي, كما ترجم جمهورية أفلاطون وكتاب القوانين, المنطق وفسلفة العلوم, الفن والمجتمع عبر التاريخ, حكمة الغرب, تراث الإسلام, وغيرها من الأعمال التي تستحق القراءة والنقاش الجاد. [email protected]