استطاع بيرم التونسي بإتقانه الشديد وموهبته القوية الفياضة التي غزت قلوب الناس من جميع الفئات من مثقفين وعامة الشعب أن يخيف شعراء الفصحي ويقلقهم لدرجة أن أحمد شوقي أمير الشعراء قال عنه: أنا لا أخاف علي الشعر العربي طغيان أحد, أو شئ إلا بيرم وأدبه الشعبي. وقال عنه الدكتور مصطفي مشرفة: لو قيس فن بيرم بمقياس الفن الأوروبي لوجب أن يكون في مقدمة شعراء العالم. استطاع بيرم هو ورفاقه إثبات أن التعبير بالعامية فن كالتعبير بالفصحي سواء بسواء. ولد محمود بيرم التونسي في4 مارس3981 بحي الانفوشي بالإسكندرية, حيث جرت في دمائه الأخلاق الحامية للسكندري الحر الأصيل. وكانت أسرته تقيم في الاسكندرية منذ أكثر من قرن, وكان والده يدير لحسابه الخاص في الثغر مصنعا للحرير معظم عملائه من عرب طرابلس. ولقد رحبت الاسكندرية بالمغاربة فخصتهم بمكان رائع عجيب في قلب المدينة يبيعون فيه الشيلان المغربي والبخور المغربي والكحل المغربي. انه سوق المغاربة. ولقب التونسي جاء لأنه من أصل تونسي لكنه نشأ وتربي في حي الأنفوشي بالاسكندرية وأمه مصرية سكندرية. وجري فن الزجل في عروقه كالدم وعبر وافتخر بأنه إسكندراني جدع فقال. اما احنا ياسكندرانية.. طالعين جميعا شضليه. .. طبيعه في الطين والميه متركبة تحت سماها. كان بيرم طفلا حين مات أبوه وتزوجت والدته من قريب لها من أصل مغربي وكان يعامله معاملة حسنة. إن موهبة بيرم لم يصقلها العلم ولكن صقلتها الحياة بتجاربها. فقد التقط أصداف الفن منذ طفولته من أعماق الحياة, كما يلتقط الغواص الماهر أثمن اللآلئ من قاع البحر. فكان يحب الزجل منذ ولادته.. يغمض عينه في استسلام حين كانت تهدهده أمه رضيعا وتنشد له أغنية المهد: أنا طلبت في المنام.. ما كانش صاحي إلا الحمام. يا حمام سبح لربك.. قول له عليك راحة التعبان. ونظرا لاهتمام بيرم بالشعر والزجل فقد ظل يبحث عن مكان ينمي من خلاله الموهبة, إلي أن اهتدي إلي مكان المكتبة البلدية بشارع سيدي أبي الدرداء.وكان كثير التردد عليها, يقضي أوقاته بقراءة المجلات التي تعني بالأزجال: كحمارة منيتي والأرغول والتنكيت والتبكيت لفحول الزجالين كالنجار والنديم والقوصي وعثمان جلال. وكان بيرم يعمل بقالا لكنه كان يغلق دكانه كثيرا ولا يلتفت إلي تجارته ويعكف علي دراسة الأدب الشعبي وأبطاله, كما قرأ في اللغة العربية للجاحظ والمبرد والأبشيهي والميداني. قرأ التراث في الورق الذي كان يلف به الحلاوة الطحينية. وفي المكتبة البلدية نظم أول قصيدة ساخرة في حياته في السادسة عشرة من عمره عن المجلس البلدي ونشرت في جريدة الأهالي بغير إمضاء فقال: أخشي الزواج اذا يوم الزفاف أتي.. يبغي العروس صديقي المجلس البلدي. وربما وهب الرحمن لي ولدا.. في بطنها يدعيه المجلس البلدي. يا بائع الفجل بالمليم واحدة.. كم للعيال وكم للمجلس البلدي. نزح بيرم إلي القاهرة.. وفي القاهرة التقي بالشعراء والزجالين والموسيقيين وسائر الفنانين, وتعرف علي شوقي وحافظ وسيد درويش وكان يقضي أمتع سهراته بصحبة حافظ وبطانته بمقهي متاتيا. وكان حافظ الشاعر وبيرم الزجال يصوران حياة الشعب, وقد عين حافظ رئيسا للقسم الأدبي في دار الكتب, وكان يشكو لبيرم من أنه لا يعمل شيئا سوي التندر علي الموظفين وتدخين السيجار الفخم والتزويغ إلي قهوة دار الكتب لتدخين الشيشة, فضحك بيرم وداعبه مرتجلا: وحق من سد فقرك بالكتبخانه.. وعلمك ع القعاد ع القهوة ويانا.. قادر كريم, ربما وطاك وعلانا.. لأن شعرك ركيك والقافيه عدمانه. لقد عبر بيرم عن هموم الطبقة الكادحة المغلوبة علي أمرها من الشعب فوصف بائعة الفجل بأنها تعد من الأبطال حين قال: بياعة الفجل أحسبها من الأبطال.. اللي لهم في المداين يتنصب تمثال.. في الليل وفي شهر طوبة والهوي قتال.. والناس في نومه وبتنادي ع الأكال.. راضية برسمال ومكسب كله نص ريال.. وتسأل الله من فضله يديم دي الحال. وقد أحب الشعب بيرم لأنه فهمه جيدا وقاد حركات تقدمه نحو حياة أفضل متحديا سلطة الحكام, وأحب بيرم الشعب لأنه قاسي مثله إلم الجوع والاضطهاد والنفي ونكران الجميل. وفي المقالة القادمة سنعالج مواقفه السياسية التي أدت إلي نفيه.