أظن أنه أصبح من المستقر تقريبا في أذهان عشاق السينما الحقيقية أن الأفلام الأمريكية الخشنة قد ساهمت في إفساد ذائقة مشاهدي السينما في العالم خاصة في مصر كما ساهم في هذا الإفساد عدد من صناع الأفلام الذين تسيطر عليهم فكرة سقيمة هي محاولة إرضاء الشرائح الدنيا من المجتمع بوصفهم الأكبر عددا, ومن ثم فهم مصدر مهم, مثل مغارة علي باب للربح والثراء وربما الشهرة, ومثل ذلك حدث في سوق الغناء الذي بلغ بعضه أدني المستويات وقطع صلته تماما بكل ما يخص الفن, وهكذا تردي الذوق, ومما يدعو للأسف الشديد أنه كلما تردي انتشر, وغدا هو السائد والمهيمن, وهذه الحال جزء من مشكلة تتردد كثيرا في الأيام الأخيرة عن تراجع الثقافة المصرية, وبالطبع فإن أكثر عناصر هذه الظاهرة يتجلي في حال السينما والغناء, وكلاهما يتصدران المشهد الثقافي علي نحو من الأنحاء, ولولا الإبداع الأدبي لكانت الصورة بالغة الأسي. لقد كتبت وكتب غيري عشرات المقالات عن وجود فنانين كبار وواعدين يمكن أن يقدموا سينما راقية وإنسانية, لكن المنتجين في الأغلب هم الذين يقطعون الطرق علي كل عمل فني رفيع, فالرفيع والرائع في نظرهم هو الشباك وكم من جرائم ترتكب باسمه وبسببه, والحال لايخفي إلا علي مكابر أو تاجر.. فالتاجر لايجد مشكلة أن يترك الذهب ليبيع الخردة, أو يتخلي عن الكتب ويبيع الأدوات الصحية, ويترك عصافير الزينة ليربي الخنازير.. المهم الشباك. استدعتني هذه الأوجاع بعد أن شاهدت فيلم رسائل بحر من تأليف وإخراج الفنان الكبير داود عبدالسيد, صاحب عدد من الأفلام الجيدة التي لايمل المرء من مشاهدتها. رسائل بحر فيلم يجمع علي شاشته كل ماهو جميل من الموسيقي والفن التشكيلي واللغة السينمائية المميزة إلي الرقص والحوار العذب والحنان والحب والقيم, وكذلك الضعف الإنساني ممثلا في حالة زوج بسمة وفي حالة كارلا وصديقتها وفي حالة يحيي البطل ذاته وصديقته بسمة وصديقه البودي جارد قابيل, ويتمثل أيضا في التاجر الذي يريد أن يهدم عمارة الحب والجمال والعلاقات والذكريات البهيجة وأيام العز ليقيم محلا تجاريا ضخما, ويسعي بإخلاص نادر لطرد عائلات هذه العمارة الفاتنة. البطل يحيي مصاب بتعثر قليل في لسانه رامزا للدلالة علي عدم قدرته علي التواصل مع البشر بشكل كامل وحميم, وعندما يحدث هذا التواصل ينطلق اللسان من عقاله ويفرح القلب وتلمع العيون. الكادرات السينمائية لاتكف عن جذبنا إلي الجمال في لقاء الأحبة سواء بالروح أو بالجسد, وفي نوات البحر وثورة أمواجه التي لاتختلف عن ثورة البشر ولاتكف عن حوارها مع الصخر, وبهاء المطر الذي يغسل ويجدد ويجمع وقد يفرق, ولكنه يخصب النفس والأرض, ويتحاور مع الدنيا حاملا رسائل السماء الرحيمة.. وتأخذنا الكاميرا إلي جمال وروعة فن العمارة في تصميم المباني والزخرفة علي وجوهها التي تحاول أن تطبع عليها ملامح الإنسان, بينما تتراقص أمامها الأشجار المورقة, ومن حجراتها الهادئة التي تهرب من المطر إلي الدفء, تتناهي إلي الأسماع موسيقي ناعمة تربت علي أرواحنا المهددة, إذ لايوجد فيها للصخب والعنف والإفيهات المنكرة والغوغائية, بل شعر في كل موقف, وهل ثمة سينما دون شعر؟! لست معنيا هنا بحكاية القصة ولكن باستعراض القليل من اللمحات الفنية التي غابت طويلا عن السينما المصرية.. تلك اللمحات التي تعبر عن روح الفن الأصيل الذي قيل عنه كثيرا إنه الأقدر علي جعل الحياة جديرة بأن نحياها. الاسم الحقيقي لهذا الفيلم هو رسائل عبدالسيد الذي أرسلها في زجاجة من البحر بلغة قد تبدو غير مفهومة, لكنها كانت باعثة لنا علي أن ننجذب إلي سحر السينما... قال داود في رسائله التي لم يتقبلها البعض في الفيلم: ليس مهما أن تكون هناك رسالة في الفن فتكفيه هذه اللحظات التي تغذي العقل والوجدان وتدفع ولو علي استحياء للتسامح مع البشر الذين تعصف بهم ظروف العيش. رسائل داود أيضا تتوجه إلي من يصفعون الجماهيربأفلام هي عبارة عن صفائح محشوة بالضجيج والرعب والإثارة المقيتة والفجاجة باسم الواقعية من أجل أن نلعن أنفسنا ونلعن الحياة.