وحدها لغة النقد المراوغة هي التي يمكن أن تشدنا إلي دلالات متباينة, ونحن نتأمل كلمة عوالم في عنوان هذا الكتاب الجديد للناقد الكبير صلاح فضل عوالم نجيب محفوظ الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية في إطار الاحتفال بالعام المئوي لميلاد عبقري الرواية المصرية نجيب محفوظ. ويعترف ناقدنا بالقصدية في اختيار هذا العنوان المراوغ, فهو في رأيه يجمع بين دلالتين من صلب حارات محفوظ التي تعج بالدراويش وبنات الهوي, بالعلماء وعوالمهم الجادة الصوفية, والعالمات وحيواتهن الصاخبة الشقية وفاته أن عوالم نجيب محفوظ تتسع أيضا للفضاءات الرحبة التي انطلق فيها إبداعه الروائي, من أفق إلي أفق, ومن دنيا إلي أخري, ومن طبقة اجتماعية إلي غيرها من الطبقات! لكن السؤال الملح يفرض نفسه بشدة: وهل بقي في عالم نجيب محفوظ ما هو جديد وبكر لدراسة نقدية جديدة تتجاوز كل ما قبلها من دراسات؟ وهل ترك السابق للاحق شيئا لم تقع عليه العين من قبل حتي نتوقع جديدا في كتاب جديد عن نجيب محفوظ؟. في ذكاء ودهاء, يلتفت صلاح فضل للأمر, يعيه ويتوقع حتمية السؤال, لذا فهو في تقديمه لكتابه يصنفه علي أنه مقاربات يجمعها من شتات كتاباته السابقة عنه, ويقدم فيه مجموعة من القراءات التي تناثرت زمنيا علي مدي ثلاثة عقود, وكانت استجابة لأمرين متوازيين هما تطور إنتاج محفوظ من ناحية, وتنوع مداخله المنهجية لقراءته في مراحل عمره النقدي من ناحية أخري, مما يضعها شاهدا علي هذه العلاقة الحساسة بين النقد والابداع, ولحظة التماس المتوهجة بين الطرفين. أفلت الناقد الكبير من السؤال المتكرر, وشد انتباهنا إلي جوهر الجهد النقدي في هذه الدراسات, في تناوله لأساليب نجيب محفوظ في كتاباته ومراحلها المتعددة. وتوقفه في وعي وحنكة عند وعي نجيب محفوظ الحاد بمشكلة التجانس بين التجربة والتعبير, سرعان ما قاده إلي صهر أهم إنجاز أسلوبي في لغة الرواية الحديثة, صنعه بحرفية بالغة وإتقان مذهل, تجاوز فيه بضربة معلم, جيل أساتذته من الروائيين الكلاسيكيين, من طبقة طه حسين وعلي الجارم وفريد أبو حديد ومن نسج علي غرارهم. ثم يمضي صلاح فضل في الكشف عن المزيد من تجليات هذا الأسلوب حين يقول: ابتكر محفوظ الأسلوب الشفاف الذي لا تشعر بكيانه اللغوي ولا تصدم بجسده المجازي, فهو يذيب طيات الدهن البلاغي المتراكم في أعطاف التعبير, ليصب نموذجا زجاجيا صافيا يشف بشكل مباشر عن الشخصيات والمواقف والنبرات والأصوات, دون أية شائبة تشعرك بجسمها الحامل لهذه السوائل الملونة, فيعيد تشكيل العبارات العامية بترتيب نحوي بسيط يدخلها منظومة اللغة العربية الموحدة, القادرة علي التوصيل بكفاءة عالية وإنكار واضح للذات. منتقلا إلي تحول نجيب محفوظ في أعماله التالية للمرحلة الواقعية وهو ابن الثقافة العربية المفعمة بعبق الشعر والتكوينات البلاغية الساحرة إلي صياغة أسلوب ثالث مختلف عن تجاربه السابقة في الأسلوبين الفخيم والشفيف, عندما أخذ ينقش شعريته الخاصة في لون من الأرابيسك المكثف المتميز, بلغ ذروة إتقانه في درته الكبري الحرافيش, التي لم يكتف فيها بإعادة اكتشاف شعرية اللغة العربية, بل غازل أسرار الشعر الفارسي المنشد في التكايا, لإضفاء مسحة صوفية رائقة علي المواقف المصورة, وصولا إلي المرحلة الرابعة في أسلوب محفوظ وهي الأخيرة عمليا, والخلاصة المقطرة لعتاقة تجربته الجمالية في اللغة, فهي في رأي صلاح فضل المرحلة الماسية لا لأنه كان قد بلغ فيها ثلاثة أرباع قرن من الزمان في عمر كتابته فحسب, ولكن لأنها تتوهج بتلك القطع الفريدة النادرة, المفعمة بالحكمة والإشارات الرمزية والألوان الباهرة المتعددة, التي أصبحت فيها الكأس جسد الفن الثمين وقيمته الغالية بأكثر مما يتراءي فيها من شراب. مختتما هذا الفصل التحليلي المدهش لأساليب نجيب محفوظ وتجلياته المختلفة في أعماله الروائية بقوله: يتجلي ذلك في أحلام فترة النقاهة وأصداء السيرة الذاتية, التي سكب فيها عصارة خبرته المتجوهرة, وكما تكون اللآليء نتيجة عبقرية لفعل الزمن, حتي في محنه العظمي, وتفاعل المواد وتراكم الوعي الجمالي بإيقاعات الحياة واللغة, فإن محفوظ في هذا التبلور الفائق قد عبر طبقات اللغة المصرية جيولوجيا, منذ عصر الفراعنة والعروبة حتي العصر الحديث, ليعكس فيها نضرة الروح ونعيم الفن الجميل. هذا الكتاب الجديد لصلاح فضل يقول لنا بوضوح: نعم, لايزال هناك جديد أصيل يمكن أن يضاف إلي ما أنجزه الآخرون عن عوالم نجيب محفوظ. المزيد من مقالات فاروق شوشة