ضاقت بهم السبل... وصاروا بلا عمل... جلسوا في البيوت... ضحية الأزمة الاقتصادية وشلل قطاع العقارات... لم يكن أمامهم سوي صرخة نداء للحكومة يطالبونها بتبني فكرة إنشاء نقابة لعمال التراحيل علي مستوي الجمهورية تضمن حقوقهم وتوفر الحد الأدني للحياة الكريمة, والأدهي أنهم نشروا بطريقه ما عبر شبكات التواصل الاجتماعي مطالبهم. عمال التراحيل أو الأرزقية.. الذين يعيشون بيننا, ولانكاد نشعر بهم, يمشون بين الناس علي استحياء, يمارسون عملهم وهم منكسو الرءوس, منكسرو النفوس, يشعر بعضهم بالرضا والقناعة, ولايرون في عملهم شيئا يعيبهم, بل يرون أنفسهم من أشرف الخلق, بينما يشعر آخرون بالقهر, ويجازون علي ابتسام بابتسام... يراهم البعض أصحاب دور وطني كبير إذا أرادوا, ويراهم آخرون عالة علي المجتمع. فهل تنظر حكومة قنديل بعين العطف لهؤلاء المحرومين الضائعين في زحام الثورة؟ وهل تنصفهم الثورة وتحقق لهم أول مبادئ العيش, قصص تمتلي بالأوجاع, ونادرا ماتختلف نهاياتها, وهذه هي مساراتها نضعها تحت بصر الرأي العام. صابر صالح, ذلك الشاب الريفي الذي يسكن في إحدي القري النائية بمحافظة الجيزة, يخرج كل صباح من بيته, داعيا ربه أن يفتحها في وجهه, وأن يعود آخر النهار مجبور الخاطر, وقد رزقه الله برزق العيال, محملا جيبه ببضعة جنيهات يذر بها الرماد في عيون زوجته وأولاده. يذهب صابر يوميا إلي صوامع امبابة, حيث السيارات التي تحمل الرمل, تنتظر من يشتري نقلة منها, يفترش الأرض هو وزملاؤه, ينتظرون أن يمن الله عليهم برجل يشتري نقلة رمل أو زلط, فيحتاج إلي أنفار لكي يحملوها له إلي حيث يريد. صابر وزملاؤه يكونون كاليتامي الذين لا كافل لهم, أو الغربان التي علي رأسها الطير, تكتسي قسمات وجوههم بالذل والانكسار, وتمتليء نفوسهم بالحسرة, حتي إذا اقبل عليهم الفرج, المتمثل في ذلك الرجل الذي سيشتري نقلة الرمل, هرولوا عليه مسرعين, يمسك كل واحد منهم بتلابيب ثوبه, ويتعلق كل واحد منهم برقبته, عسي أن يختار منهم واحدا أو أكثر, يتذللون بقلوبهم قبل عيونهم, لكي يعود كل منهم إلي بيته بيومية لا تتجاوز عشرين جنيها, يطعم بها تلك الأفواه الجائعة, والبطون الخاوية, ولو حتي بجبن أو فول وطعمية, فضلا من الله ونعمة, أما الذي لا يقع عليه الاختيار, فماذا عساه أن يفعل في وطن تركه فريسة للحرمان, ونهبا للذل والانكسار؟ إنه يخاف أن يعود إلي بيته, حتي لايكون عرضة لاستهزاء زوجته به, وسخريتها منه. عطوة الصوفاني نموذج آخر من المآسي التي توجع القلب, حيث يخرج من بيته كل إشراقة شمس, إلي المقهي القريب من بيته في قرية القيراطيين, إحدي قري محافظة الجيزة, يحمل فأسا وكوريكا, وعدة الشغل, ينتظر هو وأقرانه مقاول الأنفار, الذي يعمل في مجال الخرسانة المسلحة, ليعود مع غروب الشمس مكدودا متعبا بيومية60 أو70 جنيها, أعلي بكثير من يوميه نفر الرمل والزلط, إلا أنها ليست مستمرة كل يوم, وقد يظل بعدها أسبوعا دون عمل حسب تساهيل حركة المعمار. وعن نظرة أولاده إلي عمله, يقول عبد الكريم السيد: أولادي يخجلون مني, لدرجة أن ابنتي تطلب مني ألا آتي إليها في المدرسة, حتي لا يعرف زملاؤها أن أباها عامل تراحيل! إلا أنه رغم كل ذلك يشعر بالسعادة من ناحيتين اثنتين: الأولي لأنه يمضي وقت فراغه في العمل, والأخري أنه يعمل عملا مفيدا, ويتساءل في ألم وحسرة: لماذا لاتتبني الحكومة فكرة إنشاء نقابة للمظاليم أمثالنا؟ ألسنا بشرا مثل باقي الخلق الذين لهم نقابات تدافع عن حقوقهم؟ عبد الستار 54 سنة يعمل في حمل مواد البناء منذ أكثر من عشرين عاما في منطقة السيدة زينب, ويتشرف بهذه المهنة التي كان لها الفضل في تربية ثمانية أولاد, ويري أن هذه المهنة تحتاج إلي صبر وجلد وتحمل, وهو لايملك من الدنيا شيئا سوي الصحة والستر. ويطالب بإنشاء نقابة ينضوي تحتها كل من لا عمل له, تكون سندا لهم, وتعينهم علي نوائب الدهر, داعيا الحكومة إلي تبني هذا الطلب, أسوة بكل من ينتمي إلي مهنة وله نقابة. ويؤيده في هذا الطلب عفيفي عبد الموجود 50 سنة الذي يري أن هذه المهنة خير ألف مرة من التسول وسؤال الناس, وأفضل من الفراغ القاتل, كما يري أن التسول حرام, لذلك فبناته الأربع لا يخجلن من عمله, بل إنهن يرفعن أكفهن كل صباح, داعيات له بالستر والتوفيق والصحة. أما مفيد الإسناوي 50 سنة فلا يهمه الناس, بل كل مايهمه هو تربية أولاده الثلاثة, ويقول إن أولاده لايعترضون علي عمله, لأنه أشرف من التسول, وهو سعيد بعمله, ويشعر بحالة من الرضا, لأنه ليس لديه بديل. د. عبد العزيز الشخص, أستاذ علم النفس الإجتماعي, عميد كلية التربية السابق بجامعة عين شمس, يري أن كل عمل شريف يؤديه صاحبه بإتقان فهو عمل متميز, وأيا كان العمل, فصاحبه يجب أن يعتز به, لكي ينتج, وعندئذ سينظر إليه الناس نظرة تقدير واحترام, وربما ينظرون إليه أفضل من نظرتهم لآخرين يشغلون مواقع مرموقة في المجتمع. والأساس كما يقول د. الشخص هو إتقان العمل, كما قال رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه. ويختتم د. الشخص كلامه, مؤكدا ضرورة أن يقتنع كل عامل بما يعمله, وأن يؤديه بإخلاص, وحينها يشعر بسعادة مابعدها سعادة. وبعيدا عن تجاهل السلطات لهم, فإن لعمال التراحيل قصصا ومواجع أقسي من الواقع, كثيرا مايبثونها للأيام, بعد أن تجاهلهم المجتمع, وتغافلت عنهم المؤسسات الحكومية والأهلية.