تابعت صور عبدالناصر يرفعها المحتجون هاتفين باسمه رغم أنهم لم يروا عبدالناصر ولم يعاصروه, ومن ثم لا توجد شبهة أنهم يقدمون علي ذلك خوفا من عقاب أو سعيا لثواب فقد مضي صاحب الصورة إلي رحاب ربه وبقيت ذكراه وظلت صورته ترتفع تزاحم صور شهداء ثورة يناير. تأملت المشهد وواجهت مشاعري السلبية القديمة حيال عبدالناصر الذي قضيت في زنازينه أحلي سنوات العمر, وتذكرت مشاركتي في احتفالية دار الكتب والوثائق بالقاهرة بمناسبة مرور50 عاما علي ثورة يوليو حيث ذكرت أن عبد الناصر لم يكن مجرد ضابط صدمه ما جري في حرب فلسطين, فقرر حينذاك أن يكون تنظيما يصحح به ما رآه مختلا. ولم تبدأ علاقة عبد الناصر بالسياسة عندما شكل تنظيم الضباط الأحرار. لقد بدأ اهتمام عبد الناصر بالشأن العام منذ كان طالبا, حيث يشير المؤرخون إلي اشتراكه في مظاهرات الطلبة آنذاك. ويشيرون أيضا إلي حقيقة أنه لم يكن بعيدا عن التيارات السياسية الحزبية القائمة آنذاك, بل إنه اقترب من أنشطة أهم تيارين سياسيين راديكاليين قبل يوليو52, جماعة الإخوان المسلمين, ومنظمة حدتو الشيوعية, إلي حد أن حسبه كل من التيارين عضوا عاملا ملتزما من أعضائه. وكانت نقطة الحسم في فكر وممارسة عبد الناصر تتمثل في قراره باستقلالية تنظيم الضباط الأحرار عن أي تيار سياسي خارج الجيش. وعدت لتأمل المشهد من جديد لأجد بين أولئك المحتجين وجوها أعرفها. وجوه أبناء وأحفاد لأصدقاء عشت معهم في غياهب سجون عبد الناصر. لقد عرفتهم أطفالا يتابعون أمهاتهم وهن يهرولن من مكان لآخر لتسقط أنباء المعتقلين. بل رأيت بين أولئك المحتجين وجوها لمن عانوا من سجون عبدالناصر من أبناء أجيال تلت جيلي. وتذكرت رفاقا لي كانوا يعلنون وهم تحت سياط الجلادين أن عبدالناصر قائد وطني دون أن يدفعهم ذلك الإعلان إلي استنكار مبادئهم مقابل الإفراج عنهم. وللتاريخ لم أكن من هؤلاء فلم يكن في مقدوري أبدا أن أغفر جرائم تعذيب يصل إلي حد القتل. ربما كانت رؤيتي قاصرة, ولكن ذلك كله أصبح في ذمة التاريخ. وعدت أرهف السمع للأغاني التي تبثها مكبرات الصوت فتثير حماس المحتجين. إنها أغاني الحقبة الناصرية. وينبعث من ذاكرتي لصوت أجش لواحد من الجلادين يصرخ آمرا المعتقلين بغناء واحدة من تلك الأغنيات الوطنية ثم ينهال بضرب وحشي علي من تجرأ فأعلن أننا كنا نتغني بتلك الأغنيات عندما كنا أحرارا وأن عبد الناصر لا يشرفه أن نهتف نحن أو غيرنا بأسمه مجبرين والسياط تنهال علينا. تري ماذا بقي من عبدالناصر يلهب حماس تلك الجماهير ويجعلها ترفع صورته وتهتف باسمه وتردد أغاني عصره. لقد مضي عبدالناصر ولم يعد ثمة إغراء بمنصب ولا تخويف بعصا, بل إن بعضا ممن هتفوا باسمه ورفعوا رايته بعد ثورة يناير أصابهم من عنت السلطة الكثير. تري كيف حدث ذلك. لقد أرجع الكثيرون جماهيرية عبدالناصر الكاسحة إلي قسوة قبضته وهيمنة إعلامه. وقد فندت ذلك في الاحتفالية التي أشرت إليها مؤكدا أنه لكافة تلك التفسيرات جانب من الحقيقة, ولكنها تظل قاصرة عن تفسير ما جري تفسيرا شاملا. لقد كانت عصا النظام غليظة بالفعل, وصحيح أن الجماهير وقد افتقدت تنظيماتها, قد تنكمش خوفا من غلظة العصا مفضلة أن تحتفظ بأفكارها داخلها في سبيل الحفاظ علي حياتها. غير أن المتأمل لجماهيرية ناصر الكاسحة التي صاحبته حتي يوم تشييع جنازته, يصعب عليه التسليم ببساطة بهذا التفسير. الجماهير الخائفة قد تؤثر السلامة فتصمت, أو حتي تجاري السلطان الجائر تحاشيا لنقمته, ولكن الأمر لا يصل بتلك الجماهير إلي ذلك الحد الذي وصلته في الالتفاف حول ناصر حتي في تشييع جنازته, والتي ظلت ترفع صورته حتي اليوم. إن الاقتراب من هتافات المحتجين يكشف بيسر أنهم يرون فيه رمزا للعدل الاجتماعي ولطهارة اليد وللاستقلال الوطني وللانحياز للفقراء بحيث تخفت ملامح الدكتاتور المتسلط. ويبقي السؤال قائما: تري هل كان ممكنا بناء السد العالي و تأميم قناة السويس والسعي نحو العدل الاجتماعي دون قهر أو تعذيب؟ وهل استمرار توهج صورة عبدالناصر يعني أننا ما زلنا علي استعداد لتقديم حريتنا قربانا للعدل الاجتماعي؟ وهل تلك المقايضة حتمية أي أننا لا نستطيع أن نحقق العدل الاجتماعي والحرية معا؟ هل ما زال الحلم بشعارات ثورة25 يناير ممكنا؟ ظلت تلك التساؤلات وما زالت تبحث عن إجابة; ولعل أبلغ الإجابات قال بها شاعر مبدع قضي بعض أيامه في زنازين سجون عبدالناصر ولعله أحس بتلك المفارقة وعبر عنها في أبيات عبقرية قالها في عصر حسني مبارك. لقد كتب الأبنودي: مش ناصري ولا كنت في يوم بالذات وفي زمنه وفي حينه لكن العفن وفساد القوم نساني حتي زنازينه في سجون جمال عبد الناصر مازلت أنتظر يوما لا نضطر فيه بحكم العفن وفساد القوم أن ننسي الزنازين. يوما يختفي فيه العفن والفساد. تري هل هذا الحلم ممكن أم أنه أضغاث أحلام ؟ وحتي يتحقق الحلم أجد نفسي أردد مع المحتجين يعيش جمال عبد الناصر.