تجاوزت التغطية الإعلامية لزيارة جون كيري الي مصر كثيرا من أعراف التغطية الموضوعية اللازمة لتحركه الدبلوماسي الخارجي الأول كوزير للخارجية خلفا لهيلاري كلينتون, وتركزت في الفضائيات والصحف لاسيما الخاصة منها علي اعتبارها كارثة جديدة تضاف الي كوارث وصول الإخوان للسلطة في مصر. وللأسف وجدتني وأنا في معرض دعوة متلفزة للحديث في أبعاد تلك الزيارة أمام مذيعة وضيف متفقين تماما علي حصرها في هذا الإطار, الي درجة دفعته الي التجاوز الشخصي ومحاولة التصنيف المقولبة التي دأب عليها بعض من محترفي استوديوهات التلفزة لمخالفيهم في الرأي أمام المشاهدين, وذلك حين لمست شيئا من محاولة تحليل مغزي الزيارة وأهدافها من المنظور الأمريكي علي الأقل. بداية: كان من الأولي لفهم مغزي الزيارة أن نقرأها في اطارها العام أولا, وهو أنها أتت في سياق جولة خارجية للوزير الأمريكي وهو يدشن دبلوماسية ادارة اوباما الثانية, واضعا في أولويات الجولة بحث الملفين السوري والأيراني في الدول التي اختار زيارتها بما فيها مصر. لم يمس إعلامنا ذلك وبالتالي فقدنا بعدا مهما في المسار السوري له علاقة بخلفيات علاقة جون كيري بدمشق كمبعوث رئاسي للشرق الأوسط سابقا, وحديثه أخيرا عن المسالك الدبلوماسية بعيدا عن الخيارات العسكرية التي يريد أن يطرقها لحل الأزمة ووقف جنون نزيف الدماء. ولم يعننا بأي حال اذا كان علي الدبلوماسية المصرية أن تلعب دورا في هذا وهي التي كانت فيما سبق أكثر من غيرها المؤهلة لمثل هذا الدور.( أين ضاعت مبادرة مصر الرباعية)؟؟ المؤسف أنها دبلوماسية لم يعد لها محل من الإعراب, وبحاجة الي وقفة جادة عن الدور السياسي لمصر في المنطقة, حتي لايقتصر علي ضمان أمن اسرائيل كما هو ظاهر وحدث في وقف قتال غزة الأخير. الأمر الثاني: محاولة اعتبار أن الوزير الأمريكي جاء برسالة دعم للأخوان المسلمين في مشروع السيطرة علي مصر من خلال الانتخابات المقبلة, كانت لغة سائدة لتعميق الكراهية للإخوان والتجربة المقبلة برمتها, مع أن أحد أقطاب جبهة الإنقاذ المقاطعة للانتخابات وهو السيد عمرو موسي رئيس حزب المؤتمر كان من أوائل من التقي الوزير الأمريكي ومعه أمين الحزب والوزير السابق محمد العرابي. ولا أحسب أن أحدا حاول لقاء أي من الرجلين لفهم مادار في اللقاء وموقفهما السياسي من عدم مقاطعة لقاء الوزير كيري تضامنا مع سائر أقطاب الجبهة.( علي غرار المقاطعة الانتخابية مثلا). الأمر الثالث وهو الأهم والأخطر من وجهة نظري, أن التعامل المصري الرسمي مع أمريكا لا يريد أن يتغير, برغم الثورة, وفرض الإرادة الشعبية بإطاحة حليفها السابق, والتحول الديمقراطي الوئيد. فهي هي أمريكا, الحليف والقطب, وصاحب المعونة الأقتصادية والعسكرية, وقبلة التحرك والتوجه, والا كيف تفهم زيارة المتحدثة الرئاسية فور جلستي حوار ضمانات الانتخابات الي واشنطن الا أنها تحمل رسالة طمأنة بخصوص الانتخابات المزمعة وشئون الداخل المصري. ولم يكن موفقا بالمرة أن تعلن الرئاسة عقب الجلسة الأولي من الحوار أن الرئيس مرسي تلقي دعوة هاتفية من اوباما لزيارة واشنطن, بأسلوب أقرب الي الدعائية, بينما كانت الرواية الأمريكية للمكالمة تتركز علي مطالبة اوباما لمرسي ببذل كل الجهد لإنجاح التجربة وإقناع المقاطعين بالمشاركة. وكل ذلك يشي بخلاف ماقاله الرئيس مرسي في مستهل حكمه بأن العلاقة ستقوم علي الندية والتعاون وتغليب المصلحة المصرية لا علي التبعية والإملاءات كما كان من قبل. ان القراءة الهادئة للموقف الأمريكي من مصر تقول إننا إزاء إدارة لا تريد أن تغير من الوضع المصري والدور المصري الذي نعمت به واشنطن منذ توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل. ومايضمن لها هذا الدور هو الاستقرار السياسي في حدود ما تمتع به نظام حسني مبارك, حتي اذا ثار الناس عليه وطالبوا رئيسه بالرحيل في2011 اضطرت واشنطن أيضا الي أن تطالبه بالرحيل سريعا, ويومها بدأت تصدر منه ودائرته نغمة الرفض للتدخل في الشأن الداخلي لمصر. ولهذا لم أستبعد دور حلفاء الأمس في الثورة علي زيارة كيري كما ثاروا علي زيارة سابقته هيلاري كلينتون. واذا كانت واشنطن تبارك الآن التحول الديمقراطي في مصر علي الأقل ظاهريا, فانها لاتفعله حبا في الديمقراطية, وانما حرصا علي أهدافها بالطبع. واذا كانت أفرجت عن حزمة مساعدات مالية فانها فعلتها من المنطلق ذاته. لكن لابد من أن نعلم أنها تضع الشعب المصري الآن في تلك المعادلة باعتباره صار بثورته صاحب القول الفصل في تغيير النظام وفي اختيار من يحكمه. وعلي هذا الأساس وحده نفهم لماذا هي تدعم العملية الانتخابية وتحث المقاطعين علي المشاركة. وعلي هذا الأساس أيضا يمكن أن أقرأ التصعيد النوعي في العنف وقطع الطرق لاسيما في القاهرة الذي صاحب زيارة كيري وفي أثناء توجهه للمطار في رسالة لاتخلو من غرض إليه وإدارته, بأن الوضع لايحتمل في ظل حكم الإخوان الذي باركتموه!