المتابع لما يكتب ويقال عن اللغة العربية في الصحف ووسائل الإعلام, وما يناقش في وسائل التواصل الاجتماعي, خاصة فيسبوك, يدرك أن تصوراتنا عن اللغة, وفهمنا لطبيعتها ووظيفتها, يحوطه كثير من الأوهام والأفكار الخاطئة. فقد ثار مؤخرا في إحدي الصحف المصرية جدل حول موقف اللغة العربية من المرأة: وهل هي فعلا ضدها؟ واحتج المؤيدون للاتهام بتغليب المذكر علي المؤنث عند الخطاب حتي وإن كان بين مئة امرأة رجل واحد, وتأنيث معظم الكلمات الدالة علي الكوارث والمصائب. أما المدافعون عن اللغة فاحتجوا باستخدام صيغ مؤنثة, وصيغة جمع المؤنث, لتعظيم المذكر مثل علامة ورحالة, ورجالات. لكنني لم أر في حجج الفريقين كلاما علميا, ينم عن معرفة بطبيعة اللغة وكيف تعمل. كما أثيرت منذ أيام علي إحدي صفحات فيسبوك قضية اللغة العربية, وهل تكفل القرآن الكريم فعلا بالحفاظ عليها؟ وقبل أن نقف عند القضيتين وردود الفعل عليهما, نشير إلي نقطتين مهمتين هما: طبيعة اللغة, وطبيعة ما تحويه كتب النحو. فاللغة- في عرف علمائها المحدثين- نظام من العلامات, أي الأصوات أو الحروف. والأصوات والحروف كلاهما رموز للدلالة علي الأشياء المحسوسة, أوالمجردة وليس ثمة علاقة أبدا بين الرمز, وما يرمز إليه. وأنظمة العلامات- مثل إشارات المرور, ولغة الإشارات الجسدية, ولغة بريل للمكفوفين, واللغة بنظاميها: الكلام والكتابة- يعتورها دوما التغير عبر الزمن ومن بيئة إلي أخري. أما النقطة الثانية فهي ما يلحظه قارئ تراثنا اللغوي من خلط بين ما فيه من قواعد, وآراء نحوية وأحكام اجتماعية, وتوهم كثيرين- من ثم- أن كل ما في كتب النحو قواعد نحوية, بينما الواقع أنها مليئة بآراء وأحكام اجتماعية, قد يأخذها القارئ غير الحصيف مأخذ القواعد النحوية. والمقصود بالقاعدة النحوية ما لا تستقيم اللغة كلاما وكتابة, إلا بالالتزام به. أما أسباب رفع ما يرفع, أو نصب ما ينصب فتلك آراء نحوية لا يحتاج إليها المتكلمون أو الكتاب لتستقيم لغتهم. ومثال الأحكام الاجتماعية ما يعرف في النحو بتغليب المذكر علي المؤنث. فإذا كان يزور المتحف يوميا مثلا تسع وتسعون امرأة ورجل, تقول: مئة( يزورون) المتحف, ولا تقل( يزرن). وإذا عدنا إلي القضية الأولي المتعلقة بالزعم باضطهاد العربية للمرأة, نجد- مرة أخري- أن كثيرين يربطون بين المذكر والمؤنث في الواقع, والتذكير والتأنيث في اللغة. وهذا ربط غير صحيح; فليس التذكير والتأنيث في اللغة انعكاسا مباشرا للمذكر والمؤنث في الواقع, ولو كان الأمر كذلك ما اختلفت لغات العالم في تذكير بعض الأشياء وتأنيث بعضها الآخر, فالشمس في العربية مثلا كلمة مؤنثة, بينما هي في الفرنسية اسم مذكر. أما في القضية الثانية فنقول إن نزول القرآن الكريم بالعربية لا يعني إسباغ التقديس عليها, أو مد وعد الله جل وعلا بحفظ الذكر في إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ليشمل اللغة أيضا. لا شك أن نزول القرآن بالعربية ساعد علي انتشارها والإقبال علي تعلمها, ولكننا- وفي ضوء فهم طبيعة اللغة وتغيرها الدائم- لا يمكننا قبول القول بأن العربية ظلت مصونة من التغيرلأن القرآن تكفل بحفظها. فالمقصود بالحفظ في الآية الكريمة هو الذكر, وليس اللغة التي نزل فيها الذكر, والتي تقتضي طبيعتها التغير, وإلا كيف نفسر التغيرات التي طرأت علي أصوات العربية وأبنيتها الصرفية والنحوية ومعاني الكلمات فيها؟