ممنوع الاقتراب.. ممنوع التصوير.. حتي الاستفسار أو إبداء التعجب ممنوع.. ويبدو أن الشيء الوحيد المسموح به هو استمرار مسلسل إهدار تراثنا الثقافي واستنزاف ذاكرتنا وطمس معالم هويتنا الثقافية!! فرغم تكرار إعلان النيات الطيبة للحفاظ علي العناصر التي تشكل منظومة الثقافة المصرية سواء أكانت أثرا معماريا أو قيمة فكرية أو فنية, لاتزال كل الخطط والصفحات التي سطرها عشاق تاريخ هذا الوطن والحالمون بمستقبله تتناثر وتتحطم علي صخرة واقع غيب القانون وإعلاء قيمة المكسب السريع, ولاتزال عمليات طمس تراثنا المادي والمعنوي مستمرة, سواء عمدا أو بدافع الجهل أو الإهمال, أو لمجرد مقايضة تاريخ أمة بحفنة فضة!! فعلي مدي الشهور الماضية تفاقمت عمليات التعدي المخزية ليطالعنا متأخرا ما تواتر عن كارثة بيع حق الانتفاع بالاثار المصرية بإحدي الدول العربية!!, الأمر الذي لا ينفصم عن مسلسل التنقيب غير المشروع عن الآثار والسرقات( وكان أحدثها سرقة حشو منبر مسجد قايتباي المكون من الأبنوس والعاج), لتصبح السرقة الثانية عشرة في سلسلة سرقات حشو منابر المساجد الأثرية في ثلاث سنوات!! بالإضافة للسرقات التي تعرضت لها المساجد الأثرية ومنها مسجد ألجاي اليوسفي بشارع سوق السلاح الذي يعود للعصر المملوكي وبني عام1349 ه وسرقات مساجد ومنابر أثرية نادرة بمنطقة الدرب الأحمر, منها قجماس الاسحاقي بشارع الدرب الأحمر بمصر القديمة ومنبر مسجد الطنبغا المرداني الذي يعد أحد أقدم أربعة منابر في مصر والمنبر الأثري لجامع البهلوان الذي يعد من الآثار القليلة الباقية المعبرة عن عصر دولة المماليك الجراكسة, وسرقة شباك أثري من الشبابيك الثلاثة النحاسية الأثرية المطعمة بالتحف والأرابيسك المعشوق من سبيل رقية دودو, وامتدت السرقات إلي الجامع الأزرق في شارع باب الوزير الذي سرقت منه لوحة رخامية تقع بجانب محراب المسجد وسرقة أجزاء من مقبرة فاروق الأثرية داخل مسجد الرفاعي. وتمتد القائمة المرعبة لتشمل هدم منزل محمد فريد في شبرا وطلاء تمثال جورجي زيدان البرونزي في مدخل دار الهلال بطلاء أخضر واختفاء رأس تمثال طه حسين ومحاولة طمس ملامح تمثال أم كلثوم في الشرقية واعتداء بعض رجال الأعمال علي قصر ثقافة المحلة الذي شيده مهندس قصر الإمبراطور إمبان ومحاولة هدم مسرح قصر ثقافة أهناسيا في بني سويف وكارثة مقبرة كوم الشقافة بالإسكندرية.. و... و... قائمة طويلة من التعديات والانتهاكات لم يكن السبب الوحيد لوقوعها تضارب القرارات أو حالة الانفلات الأمني, بل الأهم والأخطر, غياب ثقافة الوعي الأثري سواء لدي المواطن أو لدي عدد لا بأس به من القائمين علي حماية الآثار. ويروي الباحث الأثري المصري محمد أبو العمايم, صاحب موسوعة العمارة الإسلامية في العصر العثماني, واحدة من تجاربه الأليمة, في محاولة توثيق آثار مصر فيقول: في أثناء تصوير وكالة أبو الروس في شارع المعز لدين الله بصحبة صديقي المعماري د. أحمد علي جابر حدث ما لم نتوقعه, وهذا ما كتبته في مذكراتي: السبت22 ديسمبر2012: بدأت تصوير باب وكالة أبو الروس, الذي احتله بأول حوش الوكالة من اليسار دكان بواجهة رخامية غيبت معالم الأثر, فهاجمنا عدد من الأشخاص لمنع التصوير ثم فوجئت بجمع من أصحاب الدكاكين الحديثة بالوكالة يريدون محو الصور التي صورناها بالقوة. ولكي نخرج من المأزق اضطررت لمحو كل الصور!! والسؤال: هل لو صور أجنبي سيرغمونه علي محو الصور؟!! المفارقة أننا صورنا هذه الوكالة من قبل( منذ نحو20 سنة) دون مشكلات, فهذه الوكالة كانت مسجلة أثرا وأخرجت من عداد الآثار في فترة ما دون وجود قرار بإخراجها, وقام التجار خلال المرحلة الأخيرة( خلال30 عاما الأخيرة) باستحداث دكاكين مبنية بالخرسانة في داخل الوكالة ومشطبة بالرخام وحدثت تعديات كثيرة علي مساحة حوش الوكالة وعلي بابها العمومي المطل علي شارع المعز لدين الله. ويستطرد أبو العمايم شارحا تاريخ الوكالة: هذه الوكالة الأثرية يعود تاريخها للعصر العثماني وتم تجديدها في عام1719 م, وهي في الأصل من منشآت السلطان الأشرف برسباي وكانت تعرف بخان الحجر, وموضعها بين القصرين الفاطميين, حيث العديد من المنشآت المهمة في تاريخ القاهرة, ولاتزال تحتفظ بكل مكوناتها الأثرية خلف الدكاكين المستحدثة فيها, لذا يجب إعادة تسجيلها ضمن الآثار الإسلامية وكذلك جميع مباني شارع المعز لدين الله, كما يحدث في الدول المتحضرة ذات الثروات المعمارية كإيطاليا, فلا يسمح لأي مبني بأن يهدم وجميع المباني مسجلة بالرسم المعماري وبالصور. لقد انقطعت سلسلة التواصل علي مستوي العاملين في مجال حماية الآثار أو المقيمين في تلك المناطق, كما تم إخراج عدد غير قليل من الآثار وهدمها بحجة التنظيم وبناء مدارس ومساكن شعبية مكان الآثار, وإهمال بقية الآثار المسجلة حتي أصبحت علي ما هي عليه اليوم, علاوة علي عدم تسجيل آثار إضافية مما ترك الفرصة لاختفاء مئات المباني المهمة لأنها غير مسجلة. والنكبة الكبري إصدار الأوامر لمفتشي الآثار بمنع التصوير وهذه جريمة كبري. أظن أن هذه الشهادة التي سابقها مسلسل إهدار تراثنا الثقافي سواء بالتعدي علي القصور والفيلات القديمة أو هدم الآثار الإسلامية وإخراج العديد من البنايات بحجة أنها تفتقر للزخارف من سجلات الآثار أو إهدار المخطوطات ونوادر الكتب التراثية تؤكد أن بداية حل المشكلة والحفاظ علي ذاكرة الأمة وجزء مهم من تراث الإنسانية تتطلب تدخلا سريعا لبناء ثقافة جديدة تحترم التراث ولا تهدر الأثر أو تحتفي بتناقص عدده(!!), ثقافة تؤكد التعايش بين سكان المناطق ذات الطابع التاريخي مع البيئة الأثرية ترتقي بها اقتصاديا.. ثقافة ترفض ضمير يهوذا أو ان تبيع الارض والتاريخ بحفنة فضة..