في متابعة لمقالنا السابق حول أهمية تنمية المواهب والقدرات لدي طلابنا لارتياد مجتمع المعرفة, وفي إطار بناء وطن ديمقراطي متطور, عرضنا لمبادرة إنشاء مدرسة المتفوقين وبخاصة في العلوم والرياضيات في مدينة6 أكتوبر. وتلك هي بداية لنشر ذلك النمط في بعض المواقع والمحافظات في الأعوام القادمة. وفي هذا المقال سوف نحاول توضيح بعض ما غاب وما غاب من مفاهيم ودوافع حافزة لإنشاء ذلك النمط من المدارس كأحد مكونات المنظومة التعليمية. ومن خلال مخرجات هذا النموذج التعليمي يتم إعداد النواة لتنشئة القيادة المبدعة والريادة المقتحمة التي تتطلبها مسيرة التقدم والتغيير والانتقال من مسيرة المجتمع الراكد المنغمس في متاهات ثقافتنا السائدة. وبهذه المدارس نواجه ظاهرة التناقص المستمرة في أعداد طلاب الثانوية العامة المتخصصين في شعب العلوم والرياضيات, والتي تدنت إلي أقل من ثلث طلاب التخصصات الأخري. وعلينا كذلك أن نتذكر أحوال نتائجنا المتدنية في الاختبارات العلمية الدوليةTIMIS والتي تتفوق فيها دول نامية ناهضة مثل سنغافورة وماليزيا وكوريا وشيلي وغيرها حيث تأتي مصر في نهايات القائمة. ثم إن إنشاء مدارس خاصة للتفوق العلمي ليس فيه اجتراء علي العدالة وتكافؤ الفرص في التعليم, بل هو عين العدالة في توفير التعليم المناسب للمتفوقين والنابهين والموهوبين بما ينمي ما لديهم من قدرات, وبحيث لا تتردي نتيجة إلحاقهم بالمدارس العامة ومناهجها التي يتعاطها الطلاب العاديون. وعدالة التعليم تعني أن لكل حسب قدراته, فللمعوقين تعليم خاص يواجه قدراتهم, وحين تتحسن مصادر إعاقتهم الفكرية أو العضوية يمكن دمجهم مع الطلاب العاديين. ومن ثم فإن العدالة ليست مطلقة مسطحة, كما أن الحرية ليست مسطحة مطلقة. ولعل من أهم مخاطر المفاهيم العامة المسطحة تجاوز الالتفات إلي مكوناتها المتنوعة في داخلها مما يعتبر خللا في التشخيص والتحليل والمواجهة. ومن بينهما مفهوم العدالة, دون إدراك للتمايزات والخصوصيات في تطبيقها. ونتساءل هل متطلبات العدالة مثلا واحدة دون إدراك المفارقات بين فئات الشباب دون وعي بتفاوت سياقاتهم, بين الاجتماعية وبين الحواضر والأرياف, وبين الأغنياء والفقراء, وبين فئات الطلاب وبيئاتهم. إن العدالة تتطلب بالضرورة تشخيص المفارقات والتباينات عند إعداد الإجراءات والسياسات العملية, وبهذا تكتمل مقومات العدالة. ومن هذا المنطلق يتحقق هدف العدالة الاجتماعية لمدارس المتفوقين والمتميزين وأصحاب القدرات العقلية والبدنية والفنية بإنشاء مدارس أو مناهج خاصة أو رعاية مختلفة تحقيقا لذلك الهدف. وتعني تلك التنوعات حق أصحابها في التمتع بالتعليم الذي ينمي ما لديهم من قدرات أو يعالج ما لديهم من قصور يعزي إلي موانع مادية أو طبقية أو عرقية أو دينية. ومن هنا لم يكن إنشاء مدرسة للمتفوقين في مصر الجديدة في الحقبة الناصرية اختراقا في حرصها علي تكافؤ الفرص, ولا تحويلها للمدارس الأجنبية إلي مدارس متميزة عرفت بالمدارس القومية التعاونية. ومما يؤسف له أن مفهوم العدالة المسطح قد قضي علي المدرسة الأولي بعد أن خرجت عديدا من قياداتنا العلمية والسياسية. وفي بعض الانتقادات علي إنشاء مدرسة المتفوقين في المدينة الكوكبية يقال إنها مقصورة علي الذكور وإهدار حق الإناث. وهنا نعود مرة أخري إلي تسطيح السياق وأجوائه. إن تلك المدرسة تجربة أولي في إطار موقع له خصوصيته, وبنظام داخلي لمعيشة الطلاب, فهل يعقل إن يتم تعليم مشترك في هذه الأجواء لتجربة جديدة وفي سياق ثقافي عام يصيح بأن صوت المرأة عورة!! وفيما يتعلق بمبررات التركيز علي الاهتمام بالعلوم والرياضيات نشير إلي ما أحدثته الاكتشافات المستندة إلي هذه المجالات في جوانب الحياة من تطوير في الأنظمة البيولوجية والاقتصادية والاجتماعية, وما تطلبته من ملايين العمليات الحسابية الكمبيوترية..ثم إن لدي إحساسا عميقا بأن نمط مدرسة المتفوقين في تركيزه علي العلوم والرياضيات. إذا أتيح له الاستمرار والاهتمام سوف يكون مدخلا مناسبا للالتحاق بمدينة العلم والبحث العلمي في مشروع عالمنا العالمي أحمد زويل, لتنهض من خلالهما نحو الدخول إلي ما يسميه بالفضول المعرفي. نحن في مرحلة من التطور الحضاري لم يعد الاقتصار فيها علي توافر رأس المال والموارد الطبيعية والقوة العاملة, أو المناخ مناطا للميزة النسبية. وتواصل الثورة العلمية غزواتها لعالم الأرض والسماء والكواكب والنبات والحيوان والإنسان, إلي جانب تطوير وتجديد المعرفة ذاتها. وتقتحم مجال التشابكات بين تخصصاتها لنسمع عن البيولوجيا والكيمياء الحسابية.ComputationalBiology/Chamestry وهناك علوم المخ والمعرفةCognitiveScience, والهندسة الوراثية, وعلاقة أسلوب تربية الأطفال وبالنظم الأيدلوجية. إننا مع محيط زاخر متلاطم لا حدود له من المعارف والاختراعات التي تولدت من خلال عوالم المعرفة, ولا نملك إزاءها عادة إلا أن نكتفي بتعبير والدتي المنبهر حين شاهدت التليفزيون أول مرة( والله الخواجات ما غلبهم شيء إلا الموت). والتعليم المتميز الذي يفتح أبواب المعرفة العلمية ومصادرها البحثية والتكنولوجية هو أحد أهم وسائلنا لتنمية طاقات الفكر المبدع الخلاق. وشعار تعليم متميز للجميع هو من أحلامنا وليس من إمكاناتنا الحالية, نأمل أن يتحقق في أحسن التقديرات مع منتصف هذا القرن. لذلك فالأمل معقود علي نمط مدارس المتفوقين أن يسد بعض الفجوة حتي ذلك الحين. نحن هنا مع مدرسة القرية الكونية في بداية طريق شعاره ما لا يدرك كله, لا يترك أقله. وهذه المدرسة للمتميزين الحاصلين علي أكثر من98% في الشهادة الإعدادية, وبمستوي الذكاء لديهم ما بين130/140 درجة, وهذا هو معيار قبول(150) طالبا من مجموع متقدمين بلغ.1002 منهم13% من الأسر الغنية,72% من أسر متوسطة الدخل,15% من أسر فقيرة. إنها مدرسة ديدنها التميز وتنمية قدرات طلابها وإمكاناتهم الإبداعية, لا تحكمها عوامل المال أو السلطة أو التعلم البنكي والاختزان في الذاكرة. وفوق هذا كله متطهرة من ممارسة جريمة الدروس الخصوصية. ندعو إلي الاستمرار في تأسيس هذا النمط من المدارس في مختلف محافظات مصر, متحدين مقولة أبو عثمان الجاحظ( الواصفون والمحللون والناقدون كثر والعاملون قلة) وذلك من أجل إعداد رواد مجتمع المعرفة وتأسيس تعليم ديمقراطي في مجتمع ديمقراطي. المزيد من مقالات حامد عمار