عقد المؤتمر العام السادس والثلاثون لليونسكو في الفترة من 25 أكتوبر حتي10 نوفمبر 2011 وقد انشغل بموضوعات عديدة بداية من قضايا المناخ والتغيرات البيئية. وانتهاء بدور الفلسفة في حل مشكلات العالم, وطرح حلول لمعضلاته الأخلاقية, مرورا بقضايا عديدة تتصل بحقوق الانسان وثقافة اللاعنف والسلام والمساواة بين الرجل والمرأة والأمن الاجتماعي والانساني. وتبدو اليونسكو بما تطرحه من قضايا وما تهتم به علي أرض الواقع من مشكلات وكأنها ضمير العالم, يستشعر آفاق المستقبل, ويدق ناقوس الخطر الذي ينبه العالم الي الآثار السلبية التي تتولد عن اندفاعه السريع نحو عالم المادة والاستهلاك وما يصاحبه من حروب ونزاعات وصور من التباعد الاجتماعي وانتهاك حقوق الانسان. واذا صح القول إن اليونسكو هي ضمير العالم الحي, فإن ذلك يجعلها أكثر المنظمات الدولية حساسية تجاه ما يحدث في العالم من تحولات, وأكثرها قدرة علي الاستجابة السريعة لمتغيرات العصر. ومن ثم فلم يكن ليمر هذا المؤتمر دون أن يستشعر التغيرات التي أحدثها الربيع العربي, وأن يستجيب لهذه التغيرات علي نحو واضح ومثير. ولقد كان الانتصار الذي حققته القضية الفلسطينية, عندما وافقت اليونسكو بأغلبية الأصوات علي قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية في منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة, كان هذا الانتصار استشعارا من الضمير الحي لليونسكو بطبيعة التغيرات الحادثة في المنطقة, وبأن السلام في العالم سوف يكون صعب المنال دون حصول الفلسطينيين علي حقوقهم. وما أحسب أن هذا القرار كان بعيدا عن اشراقات الربيع العربي, فهو واحد من تجلياتها. فلقد أدت ثورات الربيع العربي الي تشكيل ظروف جديدة لايمكن لأحد أن يتجاوزها. كما لا أحسب أن قضايا العرب, بعد تدفق الطاقة الثورية العربية, سوف تعالج علي نفس الوتيرة التي كانت قائمة زمن الخمول العربي. ولذلك فإن لنا أن نعتبر أن قرار اليونسكو الخاص بفلسطين قد صدر علي أصداء اصوات الحرية الصادرة عن شباب الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. ولم يكن نبض الربيع العربي حاضرا في القرار الفلسطيني فقط بل إنه كان حاضرا في مداولات المؤتمر ومناقشاته, يدرك ذلك من يستمع الي الخطابات العامة التي ألقيت أو المناقشات التي دارت في اللجان المختلفة, وقد حضرت جانبا منها في لجنة العلوم الاجتماعية والانسانية. يشعر المرء هنا بأن دما عربيا يتدفق الي العروق, وأنه يصنع تاريخا جديدا للعالم, وأن اليونسكو بافتراض أنها تعمل بمثابة الضمير الأخلاقي للعالم هي أكثر القنوات التي تسمح لهذا التدفق بالمرور. ومن يتأمل السياقات التي يذكر فيها الربيع العربي لايفهم فقط كيف تغيرت النظرة الي العرب, بل يعرف أيضا كيف يفكر العالم وكيف يفهم طبيعة التغيرات التي تحدث ليس في المنطقة وحدها, بل وفي العالم أيضا. فالربيع العربي يبدو وكأنه يتوهج باشراقات تدفع العالم الي التفكير والتدبر من جديد في قضايا العالم ومشكلاته. فثمة اجماع هنا علي أن تحولات جمة تحدث في العالم أجمع, وأن ما حدث في بلدان الربيع العربي, وجنبا الي جنب مع الاحتجاجات في الدول الغنية, يدل علي أن العالم أقرب الي أن يشهد تحولا في النموذج (البراديم). فالعالم الذي دخل الي القرن الحادي والعشرين آملا في آلفية يزول فيها الفقر والحرمات وتنتعش فيها روح المساواة بين بني البشر, يكتشف أن القرن الحادي والعشرين يمكن أن يكون قرنا للحرمان والشقاء, وأن هذا الحرمان وهذا الشقاء لن يزول إلا بزوال صور الفقر والبطالة والظلم والاستبعاد الاجتماعي, ولن يتحقق ذلك إلا بالحرية, ذلك الطريق الصعب الشاق الطويل, والذي يثور الناس هنا وهناك أملا في بلوغه وارتياده. يؤكد ذلك رئيس لجنة العلوم الاجتماعية في كلمته الافتتاحية لاعمال اللجنة, والتي اختتمها باقتباس من كوفي عنان أوضح فيه أن طرق تحقيق الحرية متعددة: ليس هناك نموذج واحد اللديمقراطية, او التعبير الجماعي او حقوق الانسان,.. ولكن الجميع يجب أن يتمتعوا بالديمقراطية والتعبير الجماعي, وحقوق الانسان. ويأتي الشباب في مقدمة القوي التي تقود هذا التغيير. فما أن اعتلت المنصة مندوبة منتدي الشباب الذي ترعاه اليونسكو ويضم شبابا من مختلف أنحاء العالم حتي استقبلتها القاعة بتصفيق حاد له دلالاته ومعانيه. من هذه الدلالات ادراك أهمية الشباب كقوة طليعية لقيادة التطور المعاصر, وأن الشباب يجب أن يتقدم الصفوف في المشاركة والعمل المدني. وأن فعل الثورة هو فعل شبابي بالدرجة الأولي, وأن الأمل في المستقبل معقود برؤوس الشباب. ولكن أهم هذه الدلالات جميعا هي تلك المتصلة بدور الشباب في الربيع العربي, فإطلالة الشباب العربي يتوقع لها أن تفتح آفاقا نحو دور جديد للشباب العربي, ونحو بزوغ نخب شبابية جديدة تقود العالم العربي نحو نموذج جديد وصياغات فكرية جديدة, ولقد كشفت مناقشات وتدخلات عديدة عن هذا الدور الجديد للشباب, وترسخت الدعوة الي التوسع في تمثيل الشباب وتمكينه, ودلل كثير من أعضاء الوفود علي تأكيد هذه الدعوة بإشارة الي الربيع العربي ودور الشباب فيه. ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الشعور العميق بتحول العالم الي ارتفاع اصوات كثيرة تطالب بدرس التحولات الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تترتب علي الربيع العربي. فثمة قناعة هنا بأن الربيع العربي حدث ولم ينته, بل إنه حدث ليحدث آثارا, ويترك أفكارا. ويبدو الأمر هنا و كأن الربيع العربي يمكن أن يصنع نموذجا للعالم, وأن يفتح الطريق نحو استنارة جديدة او وعي جديد يحول الاحساس بالحرمان والشقاء الذي ينتظر العالم الي بهجة وسعادة, والفرقة السائدة فيه, بما تحمل من ظلم وسوء توزيع للثروة, الي عدل ومساواة. فثمة توق هنا نحو الفضيلة, والي كشف الاغلال التي وضعتنا فيها طغيان المادة وإسراف الاستهلاك. وعلي اصداء ترديد عبارة الربيع العربي تأتي الأصوات العربية واثقة ومتحدية, وكأن لسان حالها يقول ها هم العرب يطلون علي الحضارة من جديد, وها هم يفتحون امام الشعوب المغلوبة علي أمرها طريقا جديدا للحرية. ولكن هل تكفي نظرة الوثوق والتحدي؟ ألا يعد هذا الاهتمام العالمي مسوغا للشعور بمسئولية اكبر لدي كل العرب, ولدي المثقفين منهم علي وجه خاص؟ واذا كان ضمير العالم بدأ يتحرك شوقا نحو فضائل العدل والحرية والمساواة عبر ربيعنا العربي, ألا يمكن أن نعطي العالم نموذجا بديلا يتجاوز أنانية ميكيافيللي, ويعاود غرس فضائل التنوير من جديد في عالم السياسة والحكم؟ وهل يمكن للربيع العربي أن يفجر لدي العرب جميعا طاقات الابداع الفكري والثقافي والتقني ليشاركوا في صناعة العالم بحق؟ ألا يمكن أن ينتج الربيع العربي عقلانية عربية جديدة تضعهم في قلب التاريخ كما وضعت أجدادهم من قبل؟ وهل بمقدور الربيع العربي أن يحول أحادية الفكر والسياسة الي تعددية تحمل أملا جديدا في النهضة؟ أم أن الوثوق والتحدي سوف يجعلهم أكثر تمسكا بالماضي يهرعون اليه خلاصا من مشقة الفكر وجهد المواجهة؟ وفي كل الأحوال, فسواء فكر العرب او لم يفكروا, وسواء شاركوا أم لم يشاركوا, فإن العالم فيما بعد الربيع العربي سيكون عالما مختلفا. المزيد من مقالات د.أحمد زايد