قلت, في المقال السابق ما معناه أن التمييز هو العملية القمعية التي يعامل بها إنسان غيره بطريقة تقلل من احترام هذا الإنسان وتحقر من شأنه بين أقرانه وتدني من مكانته, أو تصفه بصفات يمكن أن تكون تحريضا للآخرين علي إيذائه, والتحريض أنواع في نتائجه, يبدأ من أهونها الذي هو إيذاء معنوي, أو يتصاعد في درجات العنف.فيمكن أن يكون قطعا لأذن, أو قطعا للرقاب بتهمة الكفر, وإذا كنت قد أشرت إلي التمييز العرقي, والديني, والجنسي, والثقافي, فقد أشرت إلي التمييز ضد المسلمين من بعض الفئات والجماعات الدينية التي تري في نفسها الفرقة الناجية, وتتصور أنها التي تملك صفة الإسلام دون غيرها, وبقدر ما يؤدي بها هذا إلي احتكار الحديث باسمه, فإنها تمنح نفسها حق الحكم علي المسلمين, وتكفير هذا المسلم أو اتهام غيره بالانحراف أو الزيغ أو الضلالة في أفضل الأحوال, والنتيجة هي تصاعد تهم التكفير التي تطلقها هذه الفئات المتطرفة التي تتغافل عن المبدأ الإسلامي الذي يعلمنا أن من كفر مسلما فقد باء بها. وهانحن قد رأينا أخيرا قانونا يعاقب علي التمييز الديني, ولكن يبقي الحسم والسرعة في تفعيله وتطبيقه, كي لا يصبح حبرا علي ورق, ولا أظن أن هناك جريمة تمييز أوضح من أن يقوم داعية بتكفير غيره مهما كان موقفه السياسي, أو يحض علي إيذاء خصومه الفكريين, معنويا, أو التحقير من شأنهم بين قومهم, والمثال الصادم الذي أريد أن أتوقف عليه, وأضرب به مثلا بالغ الوضوح هو ما نشرته جريدة المصري اليوم في عددها الصادر بتاريخ السبت التاسع عشر من أكتوبر, وفي الصفحة الأولي, حيث نقرأ ما يلي: فتوي سلفية: التصويت للقبطي والعلماني والفلول حرام شرعا وقد جاء في توضيح العنوان أن الشيخ محفوظ عامر القيادي السلفي, ورئيس جمعية أنصار السنة المحمدية بدمنهور أفتي بتحريم التصويت في الانتخابات للمرشح المسلم الذي لا يصلي, والقبطي والعلماني والليبرالي الذي لم يتضمن برنامجه تطبيق الشريعة الإسلامية.. التصويت لهؤلاء حرام شرعا, ومن يفعل ذلك فقد ارتكب إثما كبيرا, وقال الشيخ نفسه في تصريح للمصري اليوم في كل الأحوال حرام شرعا, التصويت للقبطي أو الليبرالي أو العلماني, لأن العلمانية حرام. وفي الفيوم أكد عادل نصر, رئيس مجلس إدارة الدعوة السلفية في شمال الصعيد أن الجماعة رفضت التحالف الديمقراطي لأسباب شرعية وسياسية, وأخذت علي عاتقها ألا تنصر من لا يتبني الشرع, ومن جهة أخري قال الشيخ أحمد فريد عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية في الإسكندرية: إن ديننا لا يعرف المسلم العلماني أو المسلم الليبرالي فهذه المباديء تخالف دين الله, ولا يجوز أن تقول إن هذا مسلم علماني أو مسلم ليبرالي, فلا تخدع نفسك, إما أن تكون مسلما أو تكون علمانيا أو ليبراليا, فالإسلام لا يعرف الليبرالية أو الحرية المطلقة بما فيها من حريات اقتصادية وسياسية واجتماعية وجنسية. هذه فتاوي ثلاث قيادات سلفية, تتفق فيما بينها في ارتكاب جريمة التمييز بجميع أركانها, علنا, وعلي نحو مباشر لا يراعي قانونا ولا حقوقا دستورية ولا حتي المباديء الأساسية للشريعة الإسلامية التي تستخدمها هذه الفتاوي, بما يوظفها فيما يسيء إليها, لقاء مكسب سياسي دنيوي, رخيص وزائل وبيان ذلك في ست نقاط: أولاها: فضيحة وضع العلماني والليبرالي والقبطي في كفة واحدة, تجعل منهم جميعا كفارا, الابتعاد عنهم واجب, وحرمانهم من أصوات إخوانهم المواطنين في الانتخاب فعل مندوب إليه, ويثاب عليه فاعله, أما لو قلنا إن رجب أردوغان رئيس وزراء تركيا المسلمة, دعا المصريين إلي العلمانية, مؤكدا أنه لا تعارض بين الإسلام والعلمانية, فمثل هذا القول يدخل في حد الكفر, ويستحق التكفير, وذلك بمنطق لا تبتعد فيه هذه الفتاوي عن فتاوي ابن باز مفتي السعودية الأسبق, أحد أعلام إسلام النفط, ومرجع السلفية الوهابية التي تسعي إلي فرض نفوذها علي مصر, وقد رأينا البداية في رفع علم السعودية في قنا وفي ميدان التحرير في القاهرة, حيث استشهد الشباب المسلم والمسيحي من أجل مستقبل أفضل لمصر الأزهر والكنيسة, والإسلام الوسطي والمسيحية السمحاء. ثانيتها: الاستخفاف الواضح والخروج الذي لا مواربة فيه علي القواعد المنظمة للانتخابات التي ترفض استخدام شعارات دينية في الدعاية الانتخابية, وها هم أنصار حزب النور السلفي يخرجون علي هذا المبدأ بوضوح, شأنهم شأن كل دعاة الدول الدينية, مثل جماعة الإخوان المسلمين التي أعلن مرشدها الدكتور محمد بديع في أخبار اليوم (عدد السبت 19/10): الإسلام هو الحل لوجو الإخوان, ولن نتخلي عنه أبدا, وقد قال ذلك بعد أن أسست الجماعة حزبا مدنيا (؟!) ذا مرجعية إسلامية, وها هو المرشد العام يعلن بداية التراجع عن مبدأ مدنية الدولة, في سبيل الحلم القديم للإخوان المسلمين بتأسيس الخلافة الإسلامية مع اكتمال عالمية الدعوة التي لا تمايز بين جانبي الدنيا والدين في الإسلام, بل تراهما شيئا واحدا. ثالثتها: ما تنطق به الفتاوي الثلاث من انتهاك واضح, لا ريب فيه, لمبدأ المواطنة, وذلك بتمييزها بين أبناء الوطن الواحد علي أساس الدين والانتماء السياسي في وقت واحد, ضاربة عرض الحائط بعدم التضاد بين كون المواطن ليبراليا ومسلما في وقت واحد, فالأول انتماء سياسي واختيار لنظرية اقتصادية بعينها, لها علاقة بإدارة الدولة والثاني اعتقاد ديني مقره القلب والحكم فيه للعقل المؤمن بأركان الدين وقواعده. رابعتها: ويتبع ذلك الخلط بين الديني المقدس والسياسي البشري, والأول مطلق يخضع لشعائر إلهية كلية, ونصوص لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها, وثانيهما نسبي بشري, يصوغه البشر ويغيرونه حسب مصالحهم وأهوائهم وأهدافهم, فنحن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا, ونحن أدري بها لأنها متغيرة ونحن نملك قدرة تغييرها, ونعمل لآخرتنا كأننا نموت غدا, وإيماننا بها حق مثل إيماننا بأصول ديننا التي تمايز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون. خامستها: إن كل هذه الفتاوي ينطبق عليها الحكم: يفتي من لا يعلم فيما لا يعلم ولو كان هناك علم حقيقي أصيل بالإسلام لما جرؤ أحد علي الفتوي بما ليس له به علم. سادستها: الفتاوي الثلاث هي أشكال متماثلة من التمييز الديني الواضح والصريح والمعتمد, فهي تحض المسلم علي أخيه القبطي, كما تحض المسلم علي المسلم, ومن ثم فهي تمهيد لأحداث فتنة في المجتمع, وأغلب الظن أنها ستنتقل من أذهان الذين يصدقونها, وما أسهل تصديقها في مجتمع تغلب عليه الأمية, ويسود الجهل ملازما الفقر, فتصبح عقول الناس فريسة سهلة لجراثيم التمييز التي تنتقل بهم من التصديق إلي الانفعال الذي سرعان ما يغدو أفعال عنف, أخشي من آثاره الكارثية في الانتخابات القادمة, ما لم نسارع في تفعيل قانون التمييز, والحسم في تطبيقه بالأفعال لا الأقوال ولابد من تكرار التحذير من خطورة هذه الفتاوي التي هي نموذج من آلاف غيرها يراها الناس علي فضائيات الوهابية السلفية, وعلي مواقع عديدة من شبكة المعلومات, ويسمعونها في زاويا ومساجد تابعة لجماعة أنصار السنة المحمدية, أو غيرها من المساجد والزوايا التي يسيطر عليها دعاة السلفية, وهي فتاوي تتزايد, وسوف تزداد تزايدا مع دخولنا في حومة الانتخابات, ولذلك فالأمر جد وليس هزلا, ومستقبل الوطن كله علي المحك, وعرضة للخطر الداهم, ومن هذا المنطق أدعو جمعيات المجتمع المدني, وحقوق الإنسان أن تتكاتف لمواجهة هذا الخطر, وليتنا نري عددا من نشطاء المجتمع المدني, خصوصا من شباب المحامين المؤمنين بالدولة المدنية, يلاحقون قضائيا أصحاب هذه الفتاوي ببلاغات عاجلة إلي النيابة العامة في كل محافظة ومدينة. ولا أتردد إزاء المخاطر الكامنة في هذا الفتاوي, في أن أقترح علي النائب العام تكليف مكتب خاص لمتابعة هذه الفتاوي التي تنتهك قانون التمييز عمدا ومع سبق الإصرار, لقد سكتنا أكثر مما ينبغي علي دعاوي التكفير, وظللنا نكتفي بترديد: من كفر مسلما فقد باء بها, وها هي النتيجة, امتد التفكير إلي كل مجال, وتجاوز كونه سلاحا سياسيا, وأصبح سلاحا فعالا, كما رأينا في التصويت علي التعديلات الدستورية, وسيصبح سلاحا أشد فتكا في الانتخابات القادمة, فهل نظل ساكنين سلبيين؟ وإلي متي؟ المزيد من مقالات جابر عصفور