في خضم تزاحم أراء النشطاء السياسيين والحقوقيين الذين اصبحوا يتصدرون شتي وسائل الإعلام المرئي والمقروء, غاب دور المثقفين من الفنانين المصريين, ولا أعلم إذا ما كان ذلك بقرار منهم أم بقرار من وسائل الإعلام. فبالرغم من تأثير الفنان في العديد من شرائح المجتمع بحكم التواصل التراكمي بينه وبين الجمهور, الا أن تجاهل أدوار المثقفين من الفنانين أصبح شيئا أساسيا في سياسة أي نظام. وهذا ليس له علي الأقل من وجهة نظري سوي احتمالين, الأول هو أن تكون سياسة التعتيم علي أرائهم خوفا من تأثير رأي الفنان المثقف علي جموع الشعب لما يمتلكه من شعبية تراكمية تكونت عبر سنوات وليست وليدة اللحظة الراهنة, وبالرغم من ذلك فقد تم إقصاء مثقفي الفنانين من الحوارات الوطنية والوزارية والندوات التي تناقش مصير مصر في السنوات القادمة منذ إندلاع الثورة وحتي الآن. ان الفنان هو أصل العمل الفني الذي يشكل وعي وضمير أفراد المجتمع إذا ما توافرت فيه معايير الصدق والجودة, فلا مسرح أو فيلم أو مسلسل دون نص درامي, ولا غناء دون أشعار والحان, وقد ركزت هنا علي أنواع الفنون التي يمكن أن يتلقاها الغني والفقير, الأمي والجاهل والمتعلم, علي عكس أنواع أخري من الفنون التي تحتاج إلي قدر من الثقافة عند المتلقي مثل الرواية, والفن التشكيلي, وفنون الرقص الكلاسيكي. والتساؤل الذي يطرح نفسه هو: هل يخشي الإعلام من تأثير آراء مثقفي الفنانين في الشارع المصري؟! أم أنها نظرة دونية للعاملين بالحقل الفني؟ إن الكثير منا لا يدرك أن ما نشاهده الآن من تناطح أو تسلط في الحوارات بين الآراء المختلفة, وما نقرأه من عبارات منفلتة الألفاظ في وسائل الإعلام المقروءة, ما هو إلا إنعكاس لنوع الفن الذي تلقاه الجمهور خلال الأربعين عاما الماضية, فقد ساهمت علاقة الأنظمة السياسية في مصر بالفن والفنانين بشكل كبير في اندلاع ثورة 25 يناير, وذلك من خلال محورين أولهما هو نوع الفن الذي ظهر وترعرع في ظل الأنظمة السياسية السابقة, وثانيها هو علاقة رؤوس الأنظمة السياسية بالأعمال الفنية. أن أنواع الفنون التي ظهرت بعد سياسة الانفتاح في السبعينيات والتي تمثلت في أغنيات ومغنيي الميكروباصات, وأفلام المقاولات, ومسرحيات التسلية للسائح الخليجي,والتي كانت جميعها خالية من المضمون الفني الجاد, وهدفت فقط للربح السريع والإنفاق القليل, كرست لهدم منظومة القيم والأخلاق في مصر, حيث أصبح نموذج البطل الانتهازي غير المؤهل هو المثل الذي يمتلك المال أو السلطة أو كلاهما معا هو النموذج الأعلي لعامة أبناء الوطن, وتم هدم نموذج البطل المتعلم الكادح القانع الذي روجت له الفنون منذ فترة الثلاثينيات وحتي ستينيات القرن الماضي, وجاء نظام مبارك ليفتح سقف الحريات في أنواع الفنون التي تقدم, وهذا بحكم التطور التكنولوجي الذي شهده العالم, مما أوجد أشباه الفنانين ممن يحظون بالشهرة والثروة في زمن قياسي, فانتفت قيمة القناعة عند المواطن العادي, وارتفع سقف الحلم بالثراء والشهرة السريعة في جميع مجالات الحياة علي حساب كفاءة الأفراد وجودة الأعمال, وأصبح الكم الأكبر من الأعمال الفنية شكلا بلا مضمون, وكذلك معظم ما يقدمه أو ينتجه المجتمع بأكمله. فبالرغم من مساحات الحرية التي منحها النظام السابق تحديدا للفن فقد ساهم بشكل فعال في تسطيح العقل المصري, فكما كانت الحرية مكفولة, كانت سياسات التعتيم الإعلامي حول التجارب الفنية الجادة الهادفة التي تدعوا إلي التفكر في كل ما يدور حولنا, وذلك خوفا من توعية الجمهور بأمور حياته وبلاده, ومن هذا المنطلق تم تسليط الأضواء علي أنواع الفن المتواضعة, وأشباه الفنانين, لتشتيت إنتباه المواطن البسيط فقد كان النظامان السياسيان السابقان في مصر يكرسان لأنواع الفن التي تروج للأنظمة الرأسمالية المتوحشة التي كان يمارسها صناع النظام السياسي في مصر لكي لا ينفصل ذلك عن تلك, وأصبح شعار غالبية المواطنين أين قطعتي من التورتة متغاضين عن القيم والأخلاقيات المهنية والإنسانية, وانصب تركيز الفرد علي الذات دون الاهتمام بمصلحة الجموع أو الوطن إلا فيما ندر. صاحب هذه الأوضاع حركة نقدية عبثية, فبدلا من أن تكون حكما عادلا علي أنواع الفنون التي كانت تقدم, انخرطت في أجواء تصفية الحسابات, والنقد بالأجر, ودخول غير المتخصصين في هذا المجال, وتم التعتيم أيضا علي أصحاب الأقلام الشريفة من النقاد المتخصصين, واعطاؤهم أضعف الأجور. أما عن رؤوس النظام السياسي السابق بأنواع الفن التي كانت تقدم في عهده, فالملاحظ أن النظام السابق وقع في خطأ تراجيدي بتجاهله رسائل الأعمال الفنية الجادة التي أظهرت سلبيات النظام, بل وبعضها تنبأ باندلاع الثورات أو الفتن الطائفية, وأذكر منها أفلام هيه فوضي حين ميسرة, ومسرحيات مثل مين يأكل أبوه, البروفة الأخيرة ومسلسلات مثل الحارة وروايات مثل خالتي صفية والدير والفاعل, ومدونات مثل عايزة أتجوز وأغنيات مثل أنا الشعب أنا, دي لا باظت ولا خربت, أهل كيرو.. وغيرها فقد كانت مضامين مثل هذه الأعمال تحمل رسائل واضحة ضذ بعض سياسات النظام السابق الفاسدة, ولكن تجاهل الأنظمة السياسية لرسائل الأعمال الفنية كان سببا في انهياره, أن مثقفي الفن هم ترمومتر المجتمع في أي زمان ومكان, وتجاهل الأنظمة لهم ولفنونهم لا يؤدي إلا لمزيد من انهيار الأنظمة السياسية فهل ستتغير سياسات الإعلام والأنظمة السياسية مع مثقفي الفن والأعمال الفنية الهادفة في العهد الجديد؟ المزيد من مقالات د.ياسمين فراج