من الأشياء الصعبة التي تواجه خبراء الأمن والسياسة التنبؤ بالتهديدات وإدراك حجمها وخطورتها فالتهديدات لاتظهر في كل الأحوال بطريقة منطقية وأحيانا تظهر وتنمو وتتطور مثل الورم السرطاني لانفاجأ بخطورته . إلا بعد أن يصبح واقعا يجب التعامل معه بجدية والعالم مثلا في التسعينيات نظر إلي الإرهاب بوصفه تهديدا ثانويا إلي أن أصبح تهديدا عالميا يفترس الطمأنينة والتقدم والثقافة الرفيعة والتعاون الدولي وهناك من يبالغ في حجم التهديد ومخاطره لاسباب نفسية أو تاريخية, وأحيانا لمصالح شخصية أو أيدلوجية والفارق الاساسي بين الرئيس بوش وإدارته والرئيس أوباما وإدارته يتركز في طبيعة رؤية التهديد الموجه للولايات المتحدةالأمريكية وكيفية التعامل معه ويطلق علي من يعملون في مجال إدراك التهديد وتوصيفه المحذرون وعملهم يهدف إلي وضع تصور لهيكل التهديد المتوقع أن تواجهه الأمة في حقبة تاريخية معينة وكيفية التعامل معه. فعندما أصبحت الولاياتالمتحدة قوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية صارت في حاجة إلي تعريف للتهديدات الموجهة إليها علي المستوي العالمي, وكان من أعظمها خطورة التهديد النووي داخل إطار من التهديد العقائدي الناتج من انتشار الفكر الشيوعي في مواجهة الفكر الليبرالي الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية والآن يتكلم المعسكر الغربي وإسرائيل عن التهديد النووي الإيراني, وتتجه إسرائيل وربما أيضا أمريكا إلي مواجهة هذا التهديد بضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية كما حدث من قبل مع العراق, ومن بين الدراسات التي صدرت علي المستوي المؤسسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية حول تقييم التهديد النووي الإيراني دراسة بعنوان' إعادة تقييم تداعيات إيران النووية وأثرها علي العالم' والصادرة في2005 بواسطة المعهد القومي للدراسات الاستراتيجية في واشنطن واللغة المستخدمة في الدراسة متوازنة, ولاتشجع علي إعطاء الأولوية للعمل العسكري. وعلي العكس من ذلك ظهرت تقارير اسرائيلية تضع تواريخ حاسمة لضرب إيران قبل أن تصل طهران إلي امتلاك القنبلة النووية وعندما جاء الرئيس اوباما إلي البيت الأبيض لم يعجب إسرائيل برودة أعصابه ولين خطابه بالنسبة لإيران فإسرائيل تتبني ثوابت بالنسبة للموضوع النووي في الشرق الأوسط وتصر علي ألا تسمح بامتلاك أي دولة عربية لهذا السلاح اعتقادا منها أن هذا المستوي من التهديد سوف يطيح بوجودها ويقضي عليها, في حين أنها تؤمن بأن امتلاكها للسلاح النووي حتمي بالنسبة لوجودها وذلك لمواجهة الخلل الموجود في الميزان الديموجرافي والتسلح التقليدي بينها وبين جيرانها, كما تتبع اسرائيل سياسية الغموض النووي, وحتي الآن تكرر أنها لن تكون أول من يدخل السلاح النووي إلي الشرق الأوسط برغم امتلاكها لاعداد كبيرة من هذا السلاح ومؤخرا خرجت من اسرائيل تقييمات حديثة للتهديد النووي الايراني وكيفية التعامل معه بطريقة أكثر تعقلا بعد المقالة التي نشرها الدكتور أفنر كوهين في صحيفة هاآرتس الاسرائيلية وهو مؤرخ وكاتب وأستاذ إسرائيلي شهير ومعروف بكتاباته وتحليلاته العميقة في مجال السلاح والردع والانتشار النووي وكل مايتصل بهذا المجال المعقد والساخن من جوانب سياسية ومعنوية واشتهر كوهين بكتابه الفريد عن اسرائيل والقنبلة الذي طبع لأول مرة في عام.1998 في25 فبراير2010 بالتحديد, نشر أفندر كوهين في صحيفة ها آرتس الاسرائيلية مقالة قصيرة بعنوان التهديد الايراني لتدمير اسرائيل ليس سلاحا مشرعا, ودعا في المقالة قادة اسرائيل وخبراءها الاستراتيجيين إلي اعادة النظر في تقييم جدية التهديد الايراني بالنسبة لاسرائيل حتي ولو امتلكت إيران قنبلة نووية فعلية وقبل أن نخوض في مقالة أفنر كوهين التي أثارت كثيرا من ردود الفعل في اسرائيل والعالم, من الضروري الاشارة إلي الثوابت الاسرائيلية المعروفة في المجال النووي والتي لاتسمح بوجود قنبلة نووية عربية أو اسلامية قريبة منها باعتبارها تهديدا تمس وجودها ذاته, وكذلك استخدامها المستمر لكلمات مثل الفناء والبقاء عند الحديث عن التهديد النووي الموجه إليها, ثم تبنيها لسياسة الغموض النووي وحظرها للحديث حول سلاحها النووي في الداخل والخارج, الأمر الذي ساعد علي انتشار كثير من المبالغات حول ترسانتها النووية الاسرائيلية, وتجاهلها للقانون الدولي, وقيامها بضرب المفاعل النووي العراقي في1981 ومؤخرا ضرب منشأة نووية سورية ويتساءل كوهين في مقالته: لماذا ينظر الاسرائيليون إلي القنبلة النووية الايرانية علي أساس أنها تمثل تهديدا وجوديا لاسرائيل وليس تهديدا عاديا يمكن لاسرائيل التعايش معه مثل باقي التهديدات الموجودة حولها. وفي البداية اعترف كوهين أن القنبلة النووية الايرانية إذا وجدت قد تمثل مشكلة سياسية عالمية كبري لكنها لن تمثل تهديدا عسكريا لأن ايران مثل باقي الدول النووية في المنطقة لن تجرؤ علي استخدام القنبلة النووية كسلاح عسكري قابل للاستخدام العملياتي وتساءل لماذا لاتتعامل إسرائيل مع القنبلة الايرانية باعتبارها مجرد أداة استعراضية يتكئ عليها النظام الايراني من أجل إثبات وجوده, والحفاظ علي استمراره وحرصه علي الوجود في بؤرة الأحداث الإقليمية والدولية, ولم يقلل كوهين من خطر إيران النووي علي المستويين الاقليمي والدولي, لكنه دعا إسرائيل إلي ترك الموضوع النووي الإيراني للنظام الدولي وآلياته المعنية باتخاذ القرار المناسب, والحساب والعقاب, آخذين في الاعتبار أن إسرائيل نفسها ليست عضوا في نظام منع الانتشار ويتساءل كوهين في مقالته, لماذا تصر إسرائيل علي اعتبار التهديد الموجه إليها تهديدا وجوديا مع أن العالم بما في ذلك جيرانها لم ينظروا إلي قنبلتها النووية بشكل صريح. وقد دعا كوهين إسرائيل إلي الابتعاد عن التهويل في حجم التهديد الايراني, والتعامل معه بهدوء بنفس الدرجة والطريقة التي تستخدمها إيران تجاه الترسانة النووية الاسرائيلية. وفي النهاية طالب كوهين إسرائيل بتجنب تسويق فكرة ضرب إيران وإجهاض برنامجها النووي, بل دعاها للتعامل بطريقة إيجابية مع تصريحات الرئيس أحمدي نجاد الأخيرة ووصف نجاد مؤخرا بأن مايقال عن وجود قنبلة إيرانية نووية ليس منطقيا وليس له معني صحيح, كذلك دعا إلي تدقيق النظر في حقيقة أن مجرد استخدام إيران للقنبلة لن يؤدي فقط إلي مقتل إسرائيليين بل سوف يقتل معهم أيضا آلافا من الفلسطينيين والعرب, وأن مجرد إقدام إيران علي استخدام القنبلة النووية ضد إسرائيل سوف يؤدي إلي محو إيران من الوجود بواسطة إسرائيل والولاياتالمتحدة اللتين لن تقفا مكتوفتي الأيدي أمام هذا الهجوم ومعني ذلك أن مجرد تفكير إسرائيل بأن إيران تمثل تهديدا وجوديا بالنسبة لها ليس بالأمر الصحيح بل عكسه هو الصحيح ومن وجهة نظر أفنر كوهين علي اسرائيل أن تتعامل مع الدعايات الايرانية بهدوء وثقة وبدون هلع, وألا تنظر إليها بوصفها بداية الطريق لمحو إسرائيل من الخريطة. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد